أم كلثوم كانت لا تكتفي بما وصلت اليه من مجد وتفوق, بل كانت دائما تتطلع الي المزيد. وعلي سبيل المثال: فان الجلسات التي كانت تحفظ فيها لحنا جديدا.. كانت تستمر من العاشرة صباحا حتي العاشرة مساء. تحفظ دون كلل أوملل, وأحيانا كانت تسألني عندما تطول الجلسة أكثر من ذلك.. اذا كنت جائعا؟. وعندما أقول لها بأنني جعت فعلا, فإنها تسألني بذكاء, اذا كانت تحضر لي طعاما؟. فأجيبها: اذا أكلت وجبة كاملة فإنني سوف أتعب وأنام, وسوف يضيع الجوالجميل الذي نحن فيه. وهكذا كنا نقرر الاكتفاء بتناول ساندوتش من الجبن, مع فنجان شاي أوقهوة... وظلت جلساتنا هكذا طوال أربعين عاما. كانت ترفض أثناء البروفة استقبال أي انسان, لكي تتفرغ تماما لفنها. كانت تستوعب كل نغمة في اللحن.. وكل كلمة. لقد كانت أم كلثوم دائما متحفزة للنجاح.. تماما كالفرس التي تستعد للسباق وتصمم علي الفوز. هذا التشخيص من رياض السنباطي لكوكب الشرق من كتاب: أم كلثوم, معجزة الغناء العربي, رتيبة الحفني. دار الشروق, الطبعة الأولي..1994 يقع الكتاب في255 صفحة, ويتكون من مقدمة وستة فصول: النشأة والتطور الفني. ملحنوأغاني أم كلثوم, أم كلثوم والشعر, أم كلثوم وأسلوبها في الغناء, القوالب الغنائية التي غنت منها أم كلثوم, أم كلثوم في ذمة التاريخ. كانت رحمها الله تتبني أساليب الجودة الصارمة والتي تحقق لها الاجادة والإتقان في كل أعمالها, وكان علي الذين يعملون معها ضرورة الالتزام بذلك. تأمل فرقتها وهي تعزف, وكأنهم ساعة رولكس. ما يقوله رياض السنباطي يؤكد لنا ذلك, يمدنا بأسلوب الجودة الذي كانت تتبعه أم كلثوم. هي لا تعتمد علي موهبتها وعبقريتها أوموهبة الشاعر الذي تغني قصيدته, أوموهبة ملحنها الأساسي رياض السنباطي. ولا تأخذ شيئا مسلما به أوتأخذ فرصة في فعل أي شيء: كانت رمزا للإتقان. انها وكأنها تتبع اسلوب الجودة الذي اخترعه اليابانيون والمبني علي فعل الشيء بدقة وجودة من البداية. تقول رتيبة الحفني عن ارتباط فن أم كلثوم وفن رياض السنباطي: لقد تخصص السنباطي في التلحين لأم كلثوم حتي ارتبطت ألحانه بصوتها, وانطبع صوتها بألحانه.. وبمرور الزمن وكثرة ما صنع السنباطي من ألحان لأم كلثوم, أصبح لا يحس الا الطيران في الأجواء التي يحلق فيها صوت أم كلثوم. رياض كان واحدا من الذين رسموا الذوق الكلثومي. وارتاحت أم كلثوم الي فن رياض السنباطي.. فقد كان يعطيها ما تريد. ترصد رتيبة الحفني أن اللقاء الأول بين أم كلثوم وبين رياض السنباطي كان في طفولتهما, عندما التقيا في محطة قطار الدلتا في قرية درين. كانا عائدين من احياء ليالي الأفراح, حيث كانت أم كلثوم تصاحب والدها في حفلاته, كذلك رياض السنباطي الذي كان معروفا بلقب بلبل المنصورة وهوفي الثانية عشرة من عمره, يحيي الليالي الملاح والأفراح بصحبة والده. أما اللقاء الثاني. فقد كان بعد سبعة عشر عاما طبقا لما جاء في كتاب رتيبة الحفني: بعد سبعة عشر عاما من لقائنا الأول في درين, التقيت بالفتاة أم كلثوم مرة أخري. كان صيتها ملأ الأفاق في القاهرة, حين بدأت عملي كمدرس للعود بمعهد الموسيقي. وكنت أتابع ألحانها وأحسد الذين يلحنون لها, وكانت تتحرك في أعماقي ملكة التلحين... كنت قد تقدمت بإنتاجي لشركة أوديون, فعهدت الي بمطربين ومطربات جدد. وكنت علي موعد مع القدر, لأن الفنانة أم كلثوم استمعت الي بعض هذه الألحان, فطلبت أن ألحن لها, وهكذا بدأت أصنع صفحات عمري... تعاونت مع مطربة العرب الأولي علي مدي أربعين عاما. رياض كان حافظا للقرآن كما ورد في الموسوعة العربية للموسيقي. ومن هنا تأتي قدرته علي تذوق الشعر. كان عبقريا في العزف علي العود, وعندما تقدم بناء علي اعلان عن الدراسة في معهد الموسيقي العربية عام1930, بهر لجنة الممتحنين بأصالته وعبقريته, وأوصت بتعيينه مدرسا للعود بدلا من أن يكون طالبا لدراسة العود. وصفته أم كلثوم بقولها: رياض السنباطي هوالوحيد الذي يستطيع أن يتذوق الشعر, ويستطيع أن يلحنه, ولا أظن أحدا قد أوتي تلك. غنت له أم كلثوم خلال هذه الرحلة الطويلة107 أغان, أي حوالي ثلث كل أغانيها. كانت بداية اللقاء الفني عام1935, حين لحن لها رياض السنباطي أغنية أنشودة الربيع من تأليف أحمد رامي. أغنية النوم يداعب عيون حبيبي التي غنتها له في حفلها الشهري في قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة عام1936 حيث قدمت أم كلثوم ملحنها الجديد رياض السنباطي وهويقف الي جانبها. في نفس السنة غنت من ألحانه أغنية يا طول غيابي. وغنت أيضا الملك بين يديك بمناسبة تولي الملك فاروق سلطته الدستورية عام1936, وعيد الدهر, وكلاهما من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي. وفي1937 غنت له ثلاث أغان من كلمات أحمد رامي: افرح يا قلبي. وقضيت حياتي حيري عليك, ونشيد الجامعة. في1938 غنت له أربع أغنيات, ثلاث من تأليف أحمد رامي هي: الورد فتح, اجمعي يا مصر, النوم يداعب عيون حبيبي. وأغنية من تأليف أحمد شوقي: وزاد الكري عن مقلتي. وغنت له سبع أغنيات عام1939, ست من كلمات رامي: الشمس مالت للمغيب, وياليلة العيد أنستينا, أذكريني. بغداد1939, ولما انت ناوية, وفاكر لما كنت جنبي: فاكر لما كنت جنبي والنسيم يداعب غصون الشجر.. والغصن مال علي الغصن قال ما أحلي الوصال للي انتظر.. والفرحة تمت للأحباب والغصن عانق حبيبه.. وأنا اللي قلبي في حبك داب من غير ما يبلغ نصيبه كما غنت أغنية من كلمات أحمد شوقي: مقادير من جفنيك. لم تغن له بعدها لمدة خمس سنوات, حيث غنت بعدها اغنيتين عام1944: قالوا احب القس سلامة كلمات علي أحمد باكثير, هوالغانيات كلمات أحمد رامي. كان عام1946 ذهبيا زاخرا, حيث غنت له أربع عشرة أغنية, ظلموني الناس كلمات بيرم التونسي. وخمس قصائد أحمد شوقي: سلوقلبي. والسودان, وسلوا كئوس الطلا, ونهج البردة, وولد الهدي: ولد الهدي فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وسناء الروح والملأ الملائكه حول للدين والدنيا به بشراء والعرش يزهو والحظيرة تزدهي والمنتهي والسدرة العصماء وغنت ثماني أغنيات من تأليف أحمد رامي: يا طول عذابي.أصون كرامتي. حأقابله بكرة, وغني الربيع بلسان الطير, طالما أغمضت عيني. غلبت أصالح في روحي: غلبت اصالح في روحي عشان ما ترضي عليك من بعد سهدي ونوحي ولوعتي بين ايديك وغنت له في نفس السنة هلت ليالي القمر, وهي الأغنية التي لم تغنها في حفلة بعد ذلك: هلت ليالي القمر تعال نسهر سوا في نور بهاه يحلي ما بينا السمر ويطول حديث الهوي سر الحياة عندما شب خلاف بين أم كلثوم وزكريا أحمد في الفترة من نهاية1947 وحتي1960, زاد التعاون بينهما, وكاد يقتصر أداء أم كلثوم علي تلحين رياض السنباطي في تلك الفترة. غنت له فيها أغنيتين عام1949 هما: النيل من تأليف أحمد شوقي: من أي عهد في القري تتدفق؟ وبأي كف في المدائن تغدق؟ ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولا تترقرق؟ كما غنت له رائعتها ياللي كان يشجيك أنيني من تأليف أحمد رامي: ياللي كان يشجيك أنيني كل ماأشكيلك قسايا كان منايا يطول حنيني للبكي وانت معايا حرمتني من نار حبك وأنا حرمتك من دمعي ياما شكيت وارتاح قلبك ايام ماكنت أبكي وانعي في1950 غنت له رائعتين من تأليف أحمد رامي. الأولي رباعيات الخيام: سمعت صوتا هاتفا في السحر نادي من الغيب رفات البشر هبوا املأوا كأس المني قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآت العيش قبل الأوان واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان كما غنت له سهران لوحدي: سهران لوحدي أناجي طيفك الساري سابح في وجدي ودمعي ع الخدود جاري في عام1951 غنت له مصر تتحدث عن نفسها من تأليف حافظ ابراهيم: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودراته فرائد عقدي ان مجدي في الأوليات عريق من له مثل أولياتي ومجدي وفي1952 تطوع في الحرس القومي عقب ثورة يوليو, ليبدأ بعدها في تلحين الكثير من الروائع الوطنية. في هذه السنة غنت له أغنتين من تأليف أحمد رامي: مصر التي في خاطري وفي فمي. جددت حبك ليه: جددت حبك ليه بعد الفؤاد مارتاح حرام عليك خليه غافل عن اللي راح ده الهجر وانت قريب مني كان فيه أمل لوصالك يوم لكن بعادك ده عني خلي الفؤاد منك محروم ياهل تري قلبك مشتاق يحس لوعة قلبي عليك ويشعلل النار والأشواق اللي طفيتها انت بإيديك لم تغن له شيئا في1953, وفي1954 غنت له قصيدة من تلحين أحمد شوقي: بأبي وروحي الناعمات الغيدا, كما غنت له أغنيتين من كلمات أحمد رامي: يا ظالمني. وأغار من نسمة الجنوب: أغار من نسمة الجنوب علي محياك يا حبيبي وأحسد الشمس في ضحاها وأحسد الشمس في الغروب وأغبط الطير حين يشدو علي ذري فرعه الرطيب فقد تري فيهما جمالا يروق عينيك يا حبيبي. في1955 غنت أغنية علي عيني بكت عيني من تأليف طاهر أبوفاشا كما غنت أغنية ذكريات من كلمات أحمد رامي: ذكريات عبرت افق خيالي بارقا يلمع في جنح الليالي نبهت قلبي من غفوته وجلت لي ذكري ايامي الخوالي كيف انساها وقلبي لم يزل يذكر جنبي انها قصة حبي في1956 غنت له ثلاث أغنيات وطنية بمناسبة العدوان الثلاثي علي مصر هي أغنية الفجر الجديد من كلمات محمد الماحي. وأغنية الله معك من كلمات صلاح جاهين, وأغنية صوت السلام هواللي ساد من كلمات بيرم التونسي: صوت السلام هواللي ساد واللي حكم علي الدخيل اللي اندحر واللي انهزم عدونا لما ابتدا قدمنا أرواحنا فدا واستعجبت من بأسنا كل الأمم. وفي1957, غنت له أغنيتين من تأليف طاهر أبوفاشا هما علي عيني بكت عيني. وأغنية يا صحبة الراح. شهد عام1958 طفرة كبري في الروائع التي قدمها رياض السنباطي. حيث بلغ عدد تلك الأغاني عشرة أغان هي بطل السلام, بعد الصبر ما طال, وكلاهما من تأليف بيرم التونسي. وأغنيتان مهداتان لشعب العراق هما بغداد يا قلعة الأسود من تأليف محمود حسن اسماعيل, ومنصورة يا ثورة أحرارمن تأليف عبد الفتاح مصطفي. كما غنت أغنيتين عاطفيتين من كلمات أحمد رامي هما دليلي احتار وعودت عيني. اضافة الي ذلك غنت له ثورة الشك من كلمات الأمير عبد الله الفيصل, وقصة الأمس من كلمات أحمد ابراهيم فتحي. وشمس الأصيل من كلمات بيرم التونسي. وأروح لمين من كلمات عبد المنعم السباعي: أروح لمين؟ وأقول يا مين ينصفني منك؟ ما هوأنت فرحي وأنت جرحي وكله منك أروح لمين. في1959 غنت له أغنية الجيش من كلمات طاهر أبوفاشا, وأغنية هجرتك يمكن أنسي هواك من كلمات أحمد رامي: هجرتك يمكن أنسي هواك واودع قلبك الآسي وقلت أقدر في يوم أسلاك وفاضي من الهوي كاسي شهدت الستينيات طفرة أخري فيما لحنه رياض السنباطي. حيث غنت له في1960, أغنية قصة السد لعزيز أباظة, وفي1961 غنت ثلاث أغنيات هي الحب كده من كلمات بيرم التونسي. وثوار لآخر مدي من كلمات صلاح جاهين وحيرت قلبي معاك من كلمات أحمد رامي. وفي1962, غنت أغنية التوبة من كلمات عبد الفتاح مصطفي. وأغنية حسيبك للزمن من كلمات عبد الوهاب محمد. وفي عام1963 غنت له خمس أغنيات منها ثلاث من كلمات عبد الفتاح مصطفي هي الزعيم والثورة, ولسه فاكر, ولا ياحبيبي. والأغنيتان الأخريان من كلمات بيرم التونسي وهما: بالسلام والمجد, وياجمال يامثال الوطنية. لم تغن له في عام1964, غير أنها غنت له سبع أغنيات في عام1965, منها اثنتان لعبد الفتاح مصطفي هما: أقولك ايه عن الشوق, يا حبنا الكبير, وأغنية أراك عصي الدمع من كلمات أبوفراس الحمداني. وأغنية الي عرفات الله من كلمات أحمد شوقي. وحولنا مجري النيل من كلمات عبد الوهاب محمد, وأغنيتان لمحمود حسن اسماعيل هما: يا ربي الفيحاء, ورأيت خطاها علي الشاطئين, في عام1966 غنت أغنية أرض الجدود للشاعر الكويتي. ورائعتها الأطلال من كلمات ابراهيم ناجي: يا فؤادي لا تسل اين الهوي كان صرحا من خيال فهوي اسقني واشرب علي أطلاله وارو عني طالما الدمع روي كيف ذاك الحب أمسي خبرا وحديثا من أحاديث الجوي وفي1967 غنت له ثلاث أغنيات هي حبيب الشعب من كلمات صالح جودت, وحديث الروح للشاعر محمد اقبال, وقوم بإيمان وبروح وضمير من كلمات عبد الوهاب محمد. لم تغن له عام1968 لظروف النكسة, غير أنها غنت له أغنيتين عام1969 هما: أجل ان ذا يوم لمن يفتدي مصر من كلمات ابراهيم ناجي. أقبل الليل من كلمات أحمد رامي. وغنت له رثاء جمال عبد الناصر, من كلمات نزار قباني عام1970, بمناسبة موته. في عام1971 غنت أغنية من أجل عينيك عشقت الهوي من كلمات الأمير عبد الله الفيصل, كما غنت أغنية القلب يعشق كل جميل من كلمات بيرم التونسي في فبراير1971, والتي طرحت تسجيلاتها في.1972 وفي1972 غنت له أيضا الثلاثية المقدسة من كلمات صالح جودت. رحم الله السنباطي العبقري. والفنان الخالد, ورحم أم كلثوم المعجزة. انهما جزء كبير من قوة مصر الناعمة الضاربة, ومصدر فخرها للأبد. جمعهما القدر وخلدهما الزمن.