هل هناك علاقة بين الشعر والثورة؟ تبدو أهمية السؤال لأن طابع الشعر الأساسي هو التدفق الابداعي الرقيق, الذي يعبر عن حالات متعددة كالبوح الوجداني أو التأمل الفلسفي أو التصوير السيكولجي لحالات شعورية متعددة. في حين أن الثورة هي أساسا فعل انساني عنيف, وقد يتخذ العنف أشكالا دموية صارخة للخلاص من رموز النظام القديم, كما يسجل التاريخ بالنسبة لثورات شهيرة كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية. غير انني في قراءاتي الواسعة في الشعر العربي المعاصر فتنت علي وجه الخصوص بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي, الذي قرأته, وحفظت كل قصائده تقريبا وأنا في مطلع الشباب. هكذا يتحدث الشاعر عن الانطلاق من حدود الزنازين لتندفع منها الجماهير وتشكل حشود الخلاص, أو فلنقل جماهير الثورة! غير أن أهم فارق بين الشعر والثورة أن الشعر فعل فردي في حين أن الثورة لابد أن تكون نتاج فعل جماعي, وهذا الفعل الجماعي قد تقوم به طليعة ثورية قليلة العدد ومع ذلك تنجح في حشد الجماهير وراءها, في حين ان الشعر فعل فردي أساسا. والفعل الجماعي تصعب احيانا السيطرة عليه نتيجة جموح السلوك الجمعي للجماهير, في حين أن الفعل الفردي تسهل السيطرة عليه, مهما كانت الحالة النفسية للشاعر حتي لو انتابته صورة من الغضب العنيف, أو السخط الشديد علي الأوضاع الاجتماعية أو الثقافية السائدة, وبغض النظر عن حالة السواء أو الانحراف النفسي للشاعر. غير ان الشعر مع ذلك بطابعه الفردي قد يقترب من الثورة لو كانت سلمية ولم تلجأ اصلا للعنف. والنموذج البارز لهذا التلاقي النادر بين الرقة والقوة نجده في ثورة25 يناير الرائدة, فقد رفع شباب الثوار منذ البداية شعار سلمية سليمة مبرزين بذلك أن الثورة احتجاج جذري ضد الأوضاع المتردية في البلاد ولكن بدون استخدام العنف علي العكس فإن من استخدم العنف الإجرامي ضد الثوار باطلاق الرصاص الحي عليهم, مما أوقع مئات من الشهداء الأبرار والجرحي, هو أجهزة الأمن التي تصرفت بشكل همجي ضد جموع الشعب الثائرة. وأهم من ذلك كله أن الشعار الأساسي للثورة كما كان الحال بالنسبة للثورة التونسية تمثل في أشهر بيت شعري استخدمته الجماهير الغاضبة والثائرة في التاريخ العربي المعاصر, وهو افتتاحية القصيدة الشهيرة للشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي وعنوانها إرادة الحياة. يقول هذا البيت الشهير الذي شد من عزائم الثور العرب في كل مكان إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر! أردت من هذه المقدمة الوجيزة عن العلاقة بين الشعر والثورة, أن أمهد للحديث عن علاقتي بالأدب عموما وبالشعر خصوصا, أنا انتمي الي جيل الأربعينيات, حيث تكون وعي جيلي عبر القراءة المنهجية للفكر السياسي من ناحية, وللروائع الأدبية من ناحية أخري. انجذبنا علي وجه الخصوص الي الأدب الروسي وخصوصا الأعمال الروائية الفذة لدوستويفسكي والقصص القصيرة الفائقة الجمال لتشيكوف, بالاضافة الي عشرات المبدعين والنقاد والروس, واهتممنا أيضا بقراءة الأدب الفرنسي المترجم في روائعه الشهيرة وخصوصا ابداعات بلزاك ومارسيل بروست, وعرجنا أحيانا علي الأدب الروائي الأمريكي, وقرأنا بعمق مارك توين وتأثرنا بالشعراء الطليعيين المجددين. وتذوقنا روائع الشعر الإنجليزي ابتداء من شكسبير وشيللي واليزابث برواننج وروبرت برواننج ود. ه تورنس الي شاعر الانجليزية الأشهر ف.س اليوت. غير انني في قراءاتي الواسعة في الشعر العربي المعاصر فتنت علي وجه الخصوص بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي, الذي قرأته, وحفظت كل قصائده تقريبا وأنا في مطلع الشباب. بعد أن حصلت علي نسخة من ديوانه الكامل إرادة الحياة والتي نشر فيها قصيدته الشهيرة والتي أصبح البيت الأول فيها كما ذكرنا الشعار المعتمد للثورات العربية يقول الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر, ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر, ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر الي آخر هذه القصيدة الفاتنة. وقد يدعونا السؤال الذي طرحناه في صدر المقال عن العلاقة بين الشعر والثورة أن نتساءل عن الدور السياسي الذي لعبه الشعر العربي المعاصر في النقد السياسي, سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة, مما كان سببا في رفع الوعي الاجتماعي للجماهير وفي بلورة الحس النقدي عندها واعدادها نفسيا للسخط الشديد علي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاسدة, مما أدي في الواقع الي ازكاء حالة الاختمار الثوري. وهذا الاختمار الثوري أدي أحيانا الي مجرد انقلابات عسكرية لتغيير الأوضاع, أو الي ثورات متكاملة. وأنا أكتب هذه الفقرة قفزت الي ذهني قصيدة شهيرة كتبها الشاعر والكاتب المصري الشهير عبد الرحمن الشرقاوي وعنوانها من أب مصري الي الرئيس ترومان, وكانت باستخدامها شعر التفعيلة انقلابا علي الشعر العمودي من ناحية, وممارسة للنقد السياسي للإمبريالية الأمريكية بصورة مبدعة حقا, مما جعلها تؤثر في وجدان ملايين القراء. غير أنه للأمانة التاريخية هناك من شعراء الإحياء وأبرزهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم, وبعد ذلك الشاعر العراقي الكبير الجواهري, قصائد شهيرة أزكت روح الثورة في نفوس الجماهير. ولو عبرنا الأربعينيات وجئنا الي الخمسينيات والتي شهدت في الواقع انقلابات عسكرية تحول بعضها الي ثورة وأبرزها انقلاب يوليو1952 الذي قام به الضباط الأحرار, لوجدنا أن الشعر لعب دورا في مجال تسجيل الاعتراض علي الأزمات العنيفة التي واجهت ثورة يوليو, وأبرزها مايعرف بأزمة مارس1954, والتي وقع فيها الصراع العنيف بين اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة, وقد أدي هذا الصراع في جولته الأولي الي عزل محمد نجيب من كل سلطاته وكانت له شعبية جماهيرية طاغية, مما جعل الجماهير ترفض قرار مجلس قيادة الثورة وتضطر الي اعادته للسلطة مرة أخري لحين تم عزله نهائيا بعد ذلك وتحديد محل إقامته وعاد جمال عبد الناصرللسلطة مرة أخري والتي تحولت من بعد الي سلطة مطلقة. وأبدي الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور اعتراضه الشديد علي ماحدث, وخصوصا أن أزمة مارس كانت تتعلق كما قيل بانحياز محمد نجيب للديمقراطية ضد عبد الناصر الذي أراد للضباط الأحرار أن يحكموا مباشرة بعد إلغاء دستور1923 وإلغاء كل الأحزاب. ولذلك نشر عبد الصبور في ديوانه الأول الشهير الناس في بلادي قصيدة بعنوان عودة ذي الوجه الكئيب اشارة عنيفة الي جمال عبد الناصر ومبديا اعتراضه علي سلوكه السياسي. ولو تتبعنا مسار النقد السياسي الذي مارسه الشعراء العرب المعاصرون فيمكن أن نجد أمثلة متعددة في شعر فطفر النواب وأحمد مطر وأمل دنقل, وعلي وجه الخصوص نزار قباني. وقد كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة هوامش علي دفتر النكسة بعد هزيمة يونيو1967, منتقدا بشدة ضعف الأداء السياسي والعسكري المصري, ولاننسي قصائده النقدية الشهيرة في هجاء السلوك العربي المتخلف بكل صوره وأنماطه. وفي هذا التيار النقدي نجد قصائد شهيرة للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي, وعلي وجه الخصوص للشاعر أمل دنقل, والذي أبدع في قصيدته الكعكة الحجرية, واشتهر بقصيدة لا تصالح التي رفض فيها اتفاقية كامب دافيد رفضا مطلقا. في مناقشة لي منذ أيام مع الشاعر السعودي عبد الله الخشرمي عن العلاقة بين الشعر والثورة أخبرني في غمرة حماسه الشديد لثورة25 يناير وزياراته المتعددة لميدان التحرير أنه شخصيا كتب عام2000 قصيدة بعنوان توحده كان فيها نوع من النبوءة بثورة عربية علي الأوضاع المتردية, والغريب أنه كما يقول كتبها في ميدان التحرير! يقول عبد الله الخشرمي في بداية القصيدة الطويلة مستخدما الإيماءات والرموز: للمحاصيل فسحتها في الحقيقة إذ يذعن الملكوت لخاتمتي وقليلا يزملني الطيبون ويمضون في حتفهم خلف صمت الزنازين والأعين الباطشة قرة الوقت تبعاتهم والقراءة الي شجر الزحف أفصح عن ريحه مايشير الي منتهي الصحو وفي موضع آخر يقول شموخ الزهور تسامي دما يستدير علي حلمه ثم أسرت زنازينه نحوه عقها فأضاءت ميادين حرية تتقافز فيها حشود الخلاص, وهكذا يتحدث الشاعر عن الانطلاق من حدود الزنازين لتندفع منها الجماهير وتشكل حشود الخلاص, أو فلنقل جماهير الثورة! وله أبيات في قصيدة أخري منشورة في ديوانه ذاكرة لأسئلة النوارس يقول فيها: هاجس كالسحاب المعتق رعدا يمر غريبا غريبا يمر علي غاية الصامتين وهذا أنا وعدك الصعب ينبت برقا علي شنقه القادمين هل هذه اشارات الي رعد السلطة المدوي والذي يتمثل في قمع الجماهير, والي برق الثورة الذي يشرق وينشر ضياءه علي الوجود, ويقضي علي الظلمة السائدة؟