لم تمكنني سفرياتي العديدة من تلبية الدعوة الكريمة لحضور حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال38 برئاسة الصديقة العزيزة ماجدة واصف..فقد ينشغل المرء بسبب عمله عن أحداث ثقافية هامة تجري علي أرض الوطن, ولكني مثل جميع المصريين أحمل هذا الغالي بين طيات ضلوعي أينما أرحل..وسعيت لمشاهدة إلكترونية لحفل الافتتاح الذي أخرجه المبدع خالد جلال الذي تعاونت معه مرارا إبان عملي كرئيس قطاع بوزارة الثقافة وكمشاهد وفي لمسرحيته قهوة سادة وغيرها من إبداعاته الفنية المتجددة. وبقدر ما أحزنني خبر وفاة الفنان محمود عبدالعزيز,والذي كان بمثابة سحابة داكنة تخيم علي سماء الحفل,بقدر ما أسعدني إهداء تلك الدورة لاسمه المحبوب. ورأيت أن أكون أكثر إصرارا علي حضور حفل من نوع آخر كان بمثابة رحلة في الماضي السعيد لكن داخل مركبة للموتي..فذهبت بخطي متثاقلة إلي حفل تأبين الساحر الراحل بدار الأوبرا المصرية..وبدأ المدير الفني للمهرجان والناقد المخضرم يوسف شريف رزق الله كلماته التي كانت تغادر شفتيه مغلفة بغصة مريرة من الحلق والقلب. فأنا أعرفه جيدا عندما كان يلبي دعوة أهم أعمدة الثقافة المصرية والعربية رئيس معهد العالم العربي آنذاك الدكتور ناصر الأنصاري, ليشارك كناقد ومتحدث رئيسي في الندوات والعروض الخاصة بالأفلام التي تتهافت الجاليات العربية علي مشاهدتها. كان يصول ويجول في هدوء وتمكن يجعلني أنصت إليه وكأنني, كملحق ثقافي بباريس, أتصفح أكثر من موسوعة فنية في الندوة الواحدة. أما في يوم التأبين, وجدت الناقد اللبق يستعيد ذكرياته مع صديق فارقه إلي الأبد, فتخونه الكلمات والمشاعر..ثم دعا كل من له ذكريات مع العزيز الراحل ليشارك محبيه من الحاضرين تلك الذكريات..أما أنا فقد آثرت أن أتحدث عن محمود عبدالعزيز..الإنسان. لا تخونني الذاكرة عندما أستعيد يوم أن كان ولابد وأن أرافق الفنان محمود عبدالعزيز, الذي تنحني له الجاليات العربية احتراما وتقديرا, بعد انتهاء زيارته الفنية إلي المطار في باريس. وأذكر أنني لكثرة المهام المهنية في ذلك اليوم وصلت إلي المطار بعد دخوله إلي صالة كبار الزوار من المغادرين علي مصر للطيران إلي القاهرة..وتوقعت اللوم والتقريع كما يحدث من بعض الصعاليك عندما لا تقوم السفارة بفرش السجادة الحمراء أينما حلوا.. ناهيك عن الجملة التافهة التي لا تعكس إلا حقيقة ناطقها وتخرج من شفاه ملتوية ممتعضة: هو أنت مش عارف أنا مين!. ويعمل كافة الزملاء في السفارة بهدوء ودبلوماسية لامتصاص غضب ليس في محله وحق مكتسب لا علاقة له بأي توصيف مهني. ودخلت القاعة مسرعة قبل موعد إقلاع الطائرة أبحث عن الفنان العظيم والإعلام والمعجبين والمعجبات من كل الجاليات فلم تقع عيني علي أحد ولم تلتقط أذني إلا كلمات خافتة سبحان ربي الأعلي. وتتبعت الصوت لأجد نفسي خلف الفنان الراحل وهو يصلي جالسا علي مقعد متواضع في القاعة الفخيمة. وتسمرت في مكاني حتي انتهي من صلاته الخاشعة ثم التفت إلي مبتسما:حضرتك بتدوري عليا؟.. أنا آسف أصلي بأصلي وأنا قاعد علشان رجلي بتوجعني وكنت عايز ألحق الضهر قبل ما أركب الطيارة. وأسقط في يدي فلم أتفوه ببنت شفة..فهي المرة الأولي التي أري فيها عملاقا بهذا الأدب الجم والتواضع الراقي.. وأتذكر أنني ظللت أنظر إلي ابتسامته الودودة التي لم تغادر ملامحه الهادئة, حتي جاء الصديق محسن خليل مدير محطة مصر للطيران بباريس آنذاك ليصطحبه إلي الطائرة, فقد حان وقت الرحيل. في نهاية كلماتي, أرجو أن تقرأ الممثلة الشابة التي كانت تجلس بجواري في الأوبرا هذا المقال بعيون الفنان الراحل, إذ أن تواضعها الأهوج كان أقصر بكثير من ثوبها الأسود. [email protected]