تعيش منطقتنا العربية بشكل خاص, والإسلامية بشكل عام, اضطرابا غير مسبوق, تغذيه بالأساس مجموعة من الحركات أو التنظيمات التي تنسب نفسها للإسلام وتزعم لنفسها حالة من اليقين في فهمة وتفسيره, ومن ثم تدعي احتكار تمثيل هذا الدين العظيم الذي بعث الله به نبيه هاديا ومرشدا للإنسانية وليس للقتل والاحتراب وسفك الدماء والارتداد إلي عهود التوحش الأولي. لذا فقد جاء كتاب الدكتور علي الكنيسي الذي صدر أخيرا عن دار المعارف تحت عنوان محاولة لفهم دين الإنسانية منهج وتطبيق في وقته وزمنه المناسبين لكي يعود بنا إلي المثل والمقاصد العليا للإسلام, والتي يبدو انها قد غابت عن الكثيرين بسبب حالة الجدل والصخب التي نعيشها منذ عقود والتي أنتجت في النهاية ما نعانيه الآن من خراب ودمار ينسب للإسلام وهو منه براء. عمل الدكتور الكنيسي كأستاذ للفلسفة الإسلامية في العديد من الجامعات كما عاش فترة طويلة من عمره في أوروبا حيث أكمل دراساته العليا في بلجيكا ودرس في جامعاتها وعمل كمدير للمعهد الإسلامي الأوروبي, وكتب بالعربية والانجليزية واليونانية. وقد حصل بذلك خبرات متنوعة وتجارب حياتية ثرية بالإضافة إلي تبحره العلمي والأكاديمي, فانعكس ذلك في أسلوبه وطريقة اقترابه من القضايا التي يعالجها الكتاب, فجاء سهل اللغة, حلو الأسلوب يخاطب المعني بأقصر الطرق وابسطها, رغم صعوبة وتعقد المفاهيم التي تعرض لها, فكان تجسيدا للأسلوب السهل الممتنع, بحيث يستطيع كل إنسان أن يجد بغيته, في هذا العمل الذي يمثل بلا شك إضافة قيمة للمكتبة العربية. يقول المؤلف في مقدمة الكتاب إن نهجه قد قام علي المنهج الحدسي الذي غاب عن أقلام كثير من الباحثين رغم من قربه الشديد الي يقين المعرفة, ومن ثم فقد سعي المؤلف إلي رؤية الجزئيات في سياق الكليات, واستيعاب العلاقة بين الثابت الذي هو المبدأ الكلي والمتغير الذي هو الجزئي بتفاصيله. وبناء علي ذلك قسم المؤلف رؤيته كمدخل لفهم الإسلام إلي ثلاثة فصول تناول في أولها العقل ومقامه في الإسلام, وخلص إلي أن الوحي والنقل هما مصدر معرفة للمسلمين, وان العقل أداة معرفة.. وهكذا فان النظر العقلي المستمر يحقق صلاحية الدين لكل زمان ومكان ويحقق أيضا التوازن بين النص والواقع والفهم. ويرفض الدكتور الكنيسي الجمود في فهم النصوص ويري ان لا تقدم للمسلمين إلا إذا كان للعقل مجال في أحكام الفقه وكان الدليل والقائد في الاجتهاد, الذي يقوم في الأساس علي النظر العقلي والمصلحة العامة والخير المشترك ومقاصد الشريعة. وفي الفصل الثاني تحدث الكتاب عن مكانة الروح, وتناول ثلاثية الروح والنفس والبدن, وربط ذلك بثلاثية الإسلام والإيمان والإحسان, ثم شرح كيف ان الإحسان هو تجلي الروح علي الأرض. وأكد علي انه رغم ان الروح والعقل من طبيعتين مختلفتين إلا أنهما هنا من أدوات المعرفة والعلم. فالعقل ينتج معرفة إنسانية, والروح تنتج معرفة إلهية. وانتهي إلي أن الروح والعقل هما الإنسان, حيث الروح هي مبدأ الحياة وخلودها بعد الممات, والعقل هو الذي يصنع إرادة الإنسان ويشكل رحلته في الحياة. وقد افرد المؤلف الفصل الثالث للأخلاق باعتبار أن الأخلاق تمثل تجليا للروح والعقل علي أرض الواقع. ثم اختتم بفصل تطبيقي عن آداب ومعاملات وخلق الرسول صلي الله عليه وسلم باعتبارها التجسيد والتطبيق الحي لما تناوله الكتاب في فصوله الثلاثة الأولي.