إذا شاء حظك الطيب أن تزور إحدي الجامعات الكبيرة في أوروبا أو الولاياتالمتحدة أو اليابان وتتجول في مقتنيات تلك الجامعة من الكتب النادرة, ستجد أن للكتب العربية والإسلامية المطبوعة والمخطوطات نصيبا كبيرا, ستملؤك الغرابة لأنه لا توجد جامعة في بلادنا تحرص علي ذلك وتهتم به, نعم كانت جامعاتنا فيما مضي حريصة علي ذلك, ولكن تلك أيام قد خلت. ابحث عن طبعات مطبعة بولاق في الجامعات الحكومية والخاصة فلن تجد لها أثرا عدا الجامعة الأمريكية, وكأن الكتب القديمة ملابس قديمة بالية لا تتماشي مع الموضة. اقتناء تلك الكتب واجب وطني واحتفاء بالمنجزات التاريخية التي حققتها مصر عبر العصور. السؤال الملح: كيف كانت الجامعات المصرية في النصف الأول من القرن العشرين تحوي تلك الجواهر المكنونة, وأصبحت الآن لا تعي حتي بوجودها ولا تهتم. هذا هو التيه الثقافي الذي يجعلنا لا ندرك مصادر ثقافتنا وتميزنا. عندما غزا نابليون بونابارت مصر, أحضر معه مطبعة عربية لتخدم أغراضه وسياسته, وأصبحت تسمي المطبعة الأهلية في القاهرة ابتداء من14 يناير1799 في خدمة الحملة الفرنسية( سميت تلك المطبعة عبر خدمتها بثلاث أسماء, فكان اسمها وهي في طريقها الي مصر في البحر مطبعة الجيش البحري ثم سميت في الإسكندرية المطبعة الشرقية والفرنسية وأخيرا في القاهرة أطلق عليها المطبعة الأهلية. بقيت هذه المطبعة تؤدي وظيفتها حتي نهاية الحملة عام1801, وقد بقيت مصر بضعة أعوام محرومة من من المطابع حتي أسس محمد علي مطبعة بولاق. يقول الدكتور إبراهيم عبده في كتابه تاريخ الوقائع المصرية في الفترة1828-1942, والمنشور في مطبعة بولاق1942: لإنشاء مطبعة بولاق وهي أول مطبعة للحكومة المصرية الحديثة قصة لا بأس من الإلمام بها قبل معالجتنا لموضوع الوقائع المصرية, فمطبعة بولاق تعتبر في تاريخ مصر تحولا خطيرا في تفكير حاكمها فقد عالج الولاة قبل محمد علي شئون مصر بوحي من العصور الوسطي, فكانت أصول التفكير كلها تستلهم وحيها من قديم بال يقف عثرة دون النور الذي شع في أوروبا جميعا منذ عصر النهضة المعروفة, كان الناس يرون الحياة ولا حياة فيها, فقد بسط الولاة سلطانهم بالعنف, وكان العلماء قوة رجعية من ورائهم تسندهم وتشد أزرهم, فكل علم يخالف الصوفية والشعوذة ليس بعلم ويقتضي من السلطات حربا عاتية, حتي إن طبع القرآن الكريم استوجب كفاحا طويلا مع هؤلاء العلماء, ولم ينجح محمد علي في تقرير نشره, وقد استوجب طبعه عقاب ناشره, قد بقيت أزمة نشر القرآن زهاء أربعين عاما. يذكر الأمير عمر طوسون في كتابه البعثات التعليمية في عهد محمد علي, أن أول بعثة تعليمية لمحمد علي كانت لإيطاليا عام1815 حيث تم إيفاد نيقولا مسابكي أفندي البيروني الي إيطاليا ليتعلم فن الطباعة خاصة وليشتري عددا وآلات ومعدات مختلفة لمطبعة الباشا, قد درس مسابكي أفندي هذه الصناعة في ميلانو وأمضي أربع سنوات في دراستها عاد بعدها الي القاهرة, واشتغل مباشرة في إنشاء مطبعة بولاق وتولي إدارتها بعدها لسنوات طوال. وقد اختلف الكثيرون في الأسباب التي أسس محمد علي من أجلها مطبعة بولاق, إلا أن التاريخ يحتسب له أنها كانت ضرورة لمشروعه التنويري المتكامل لمصر ولخدمة الجيش الذي كان يعده ليكون جيشا إمبراطوريا, وطبع ما يحتاجه من الكتب اللازمة لتعليم أفراده من الضباط والجنود, ونشر ما ينبغي نشره من القوانين والتعليمات العسكرية. كان محمد علي صاحب فكر إستراتيجي وصاحب رؤية ثاقبة ورغبة عارمة في أن تكون مصر دولة عصرية بمعني الكلمة ولإحساسه بأن قدراتها وقدرها أن تكون كذلك. لفهم الدور الذي قامت به مطبعة بولاق في مساهمة مصر في النهضة العربية, لا بد من الاستعانة بكتاب:تاريخ مطبعة بولاق, تأليف أبو الفتوح رضوان, المطبعة الأميرية بالقاهرة,.1953 الكتاب هو الأصل الذي يقتبس منه الجميع عند الحديث عن مطبعة بولاق. كما أنه يحوي دراسات مستفيضة عن تاريخ الطباعة منذ نشأتها بتفصيل بالغ, وقارنها بمطبعة الأستانة العربية التي أنشئت بالإستانة عام1728, وأنها طبعت فقط عبر قرن وسنتين أي حتي1830 أربعة وتسعين كتابا فقط, وانها كانت رديئة الجودة وأنها لا تقارن كما سنري بمطبعة بولاق. يقع الكتاب في524 صفحة, إضافة الي تقديم الكتاب للأستاذ الدكتور محمد شفيق غربال. يحتوي الكتاب مدخلا عن انتشار الطباعة في الشرق الأوسط,16 فصلا هي: لماذا أنشئت مطبعة بولاق, تاريخ إنشاء مطبعة بولاق, مؤسس المطبعة وأول ناظر لها, اسم المطبعة ومكانتها, عدد المطبعة وآلاتها, سياسة المطبعة, نظام الطبع بالمطبعة, حياة المطبعة في عهد محمد علي, مطبعة بولاق تتحول الي مطبعة خاصة, مطبعة بولاق السنية, المطبعة الأميرية ببولاق, مطبوعات بولاق, ملحقات المطبعة, أثر مطبعة بولاق في النهضة العلمية الحديثة, المطابع الأميرية الصغري, المطابع الخاصة وقوانين المطبوعات, وملاحق الكتاب التي تحوي وثائق لم يسبق نشرها, وقائمة باسم المراجع, فهرس الأعلام واللوحات التوضيحية. أصل الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف للحصول علي الماجستير من قسم التاريخ بجامعة القاهرةعام1936 ومن هنا تأتي أهميته البالغة. كان تقرير اللجنة المكونة من الأساتذة محمد شفيق غربال وأحمد أمين ومحمد مصطفي زياد: أن الرسالة قيمة وجديدة وصل فيها المؤلف الي نتائج مهمة في موضوعها وهي جديرة بالنشر. يخلص المؤلف في مقدمته لكتابه أن تاريخ النهضة المصرية الحديثة يجب أن يبدأ بتاريخ مطبعة بولاق فمنها انبعث النور نو العلوم الطبيعية الذي بدد ظلمات الجهل وحرر العقول من الخرافات. وفي حجراتها خلق عصر جديد بتفكير جديد وآراء جديدة وآمال تصلح للخلود. وعلي آلاتها طبعت عقلية مصر الحديثة تلك العقلية التي كونت الإمبراطورية المصرية في القرن التاسع عشر, والتي وطدت نظام الحكم الديمقراطي في القرن العشرين, والتي أنشأت الجامعات الحديثة في هذا العصر, والتي أقامت الزراعة المصرية علي أسس علمية, والتي جعلت مصر زعيمة العالم الشرقي وحلقة الاتصال بين المدنية الحديثة وبين أقطاره المختلفة. يذكر الرافعي في كتابه تاريخ الحركة القومية: لم تكن مطبعة بولاق وحدها في خدمة الحكومة المصرية بل كانت هناك مطابع أخري صغيرة في خدمة الحكومة المصرية زادت مع الزمن حتي بلغت تسعا أهمها مطبعة المدفعية بطره, أخري لمدرسة الطب في أبي زعبل وثالثة في مدرسة الفرسا, بالجيزة. كانت مطبعة بولاق بداية تاريخ الطباعة في مصر, وبسرعة كبيرة تلتها مطابع أخري كثيرة, وكأنها بداية غيث ومصدر نور وإشعاع. كانت بوابة عبور من ظلمات الي نور ومن ضعف وتخلف الي حداثة ونور وقوة. يضيف الدكتور محمود محمد الطناحي في مؤلفه, الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر, دار الهلال,1996: سطع نور مطبعة بولاق وتألق, ثم مد ظلاله علي الأفراد والجماعات فنشط هؤلاء وهؤلاء لطبع الكتاب العربي مدفوعين بنفس الروح التي سرت في مطبعة بولاق, من حيث نشر النصوص في كل علم وفن, بالكتب الصغار والأوساط والمطولات, تحقيقا للتراث وترجمة لآداب الغرب وعلومه,وتأليفا من أصحاب القرائح والمواهب, وهي الدعائم الثلاث التي تقوم عليها نهضات الأمم: نشر التراث والترجمة والتأليف. يضيف الدكتور الطناحي: وقد انتشرت عشرات المطابع في قلب القاهرة,خصوصا في تلك المنطقة المتصلة بالأزهر الشريف ودار الكتب المصرية...فمن هذه المناطق المتجاورة المحدودة من قلب القاهرة خرجت ثقافة العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر, فأي ضوء سطع وأي نور أضاء يستمر الدكتور الطناحي في تفصيل شرحه للمطابع الأهلية التي نشأت بعد أربعين سنة من مطبعة بولاق ويوثقها ويحصيها عددا وشرحا مع إعطائنا قائمة بالكتب القيمة التي طبعتها كل مطبعة في القرن التاسع عشر أشهرها: المطبعة الأهلية القبطية والتي عرفت فيما بعد باسم مطبعة الوطن, ومطبعة وادي النيل, ومطبعة النيل, ومطبعة جمعية المعارف, والمطبعة الوهبية, شركة طبع الكتب العربية, المطبعة الميمنية, ومطبعة مصطفي البابي الحلبي, ومطبعة عيسي البابي الحلبي التي تسمت باسم دار إحياء الكتب العربية, والمطبعة الخيرية, ومطبعة إبراهيم المويلحي, المطبعة الأدبية المصرية, والمطبعة الأزهرية, ومطبعة الاتعتماد, ومطبعة الأفندي, والمطبعة البهية, ومطبعة التأليف, ومطبعة الترقي, ومطبعة التقدم العلمية, ومطبعة التمدن, ومطبعة جمعية المعارف, ومطبعة حسن الطوخي, والمطبعة الحسينية المصرية, والمطبعة الحميدية المصرية, والمطبعة الخيرية, ومطبعة السعادة, ومطبعة شرف, والمطبعة الشرقية, ومطبعة العاصمة, ومطبعة عبد الرازق, مطبعة عبد الغني فكري, مطبعة عثمان عبد الرازق, والمطبعة العثمانية, المطبعة العلمية, المطبعة العمومية, ومطبعة الفتوح الأدبية, والمطبعة الكاستيلية, ومطبعة المنار, ومطبعة الهلال, ومطبعة هندية, ومطبعية الحلمية, والمطبعة الوطنية. كان أول إصدار لمطبعة بولاق قاموس عربي إيطالي عام1822, وتضمن نشر قصيدة بعنوان ديانة الشرقيين, تأليف بيلتي, فهم منها أنها تحوي دعوة الي الإلحاد, مما جعل محمد علي يغضب علي مدير المطبعة, وجعله يصدر قرارا مهما بتاريخ13 يوليو1823 يحرم علي الأوربيين طبع أي كتاب في مطبعة بولاق إلا بإذن ومعرفة محمد علي نفسه, وضمن القرار أن عقوبة شديدة ستقع علي كل مخالف للأمر. كان هذا قرارا تاريخيا لأنه كان أول قانون لمراقبة المطبوعات, لم يقتصر تطبيقه علي مطبعة بولاق فقط, ولكن شمل كل المطابع الأخري. أصدرت مطبعة بولاق أنواعا مختلفة من المطبوعات تنحصر في سبعة أنواع: القوانين واللوائح والمنشورات, الكتب, التقاويم, الوقائع المصرية, القرآن الكريم, الأوراق والدفاتر الحكومية, ومقامات الموسيقي. تجدر الملاحظة هنا أن المطبعة لم تطبع كتب الأزهرفي عهدي محمد علي وعباس, ولم تبدأ في طبع الكتب الأزهرية إلا في عهد سعيد. يعزي المؤلف أسباب ذلك: الي مقاومة الأزهريين أنفسهم إصلاحات الباشا وعدم رغبتهم في الاشتراك فيها وجعلهم أنفسهم طبقة رجعية تناولت تلك الإصلاحات بكثير من القلق والحذر.. فالمطبعة عندهم كانت بدعة واستعمال الحروف المعدنية في كتابة اسم الله كان شيئا محرما وضغط تلك الأسماء المقدسة بالآلات كان عملا مكروها... لذا قاوموا طبع القرآن الكريم مدة طويلة ورغبوا عن طبع كتبهم في المطبعة. أصدرت مطبعة بولاق عددا هائلا من الكتب في المجالات العسكرية, وكتبا مدرسية خاصة بتعليم المدارس, ثم كتب الثقافة الإسلامية( كتب الدين وكتب الآداب). طبقا لإحصاءات الدكتور أبو الفتوح رضوان: أول ما طبع فيها من الكتب كانت كتبا حربية بحيث يصح أن نقول إن هذا النوع من الكتب احتكر إنتاج المطبعة الي سنة.1826 أما الكتب المدرسية فقد ابتدأ طبعها في مطبعة بولاق منذ الابتداء في إنشاء المدارس أي منذ سنة.1824 كانت الكتب المدرسية علي أنواع فمنها الكتب التي كانت تدرس بالأزهر ومنها الكتب التي كانت تدرس بالمدارس الحديثة التي أنشأها الوالي, وكانت كتب العلوم الحديثة التي تدرس في مدارس الوالي هي التي طبعت ببولاق في عهد محمد علي. أما كتب الأزهر فلم يكن يطبع منها شيء في عهده. وهناك أسباب يمكن أن نرجع إليها عدم طبع الكتب الأزهرية في بولاق في عهد محمد علي والإقتصار علي كتب العلوم الحديثة. من هذه الأسباب أن محمد علي مع احترامه للأزهر لم يكن يعول عليه في النهضة والتجديداللذين حاول إحداثهما في مصر. وذلك بأن عناصر تلك النهضة لم تكن من طبيعة الأزهر والأزهريين في شيء. كانت نهضة تقوم علي القوة الحربية والإصلاحات الزراعية والصناعية. وقد كانت علوم الدين واللغة أبعد ما تكون صلاحية لهذا النوع من المشروعات. ولذا لم يجد محمد علي في كتب الأزهريين غناء ولم ير في طبعها خيرا. وإنما وجد الغناء والخير الكثير في العلوم الحديثة التي أنشأ من أجلها المدارس المختلفة وترجم فيها الكتب الكثيرة التي إقتصر عليها عمل مطبعة بولاق. أما النوع الثالث من الكتب المطبوعة فهي كتب الثقافة الإسلامية ككتب الدين والآداب من غير كتب الأزهر. تلك كانت أنواع الكتب التي طبعت في مطبعة بولاق, وهي متنوعة غاية التنوع ففيها الي جانب كتب الحرب وكتب الطب كتب مدرسية كثيرة متنوعة في الحساب والهندسة والجغرافيا والنبات والنحو وفيها الي جانب هذا كله معاجم كالمعجم العربي الإيطالي وهو أول ما طبع بها عام1822, وتحفة وهبي عام1831, وسبحة الصبيان وهي مجموعة كلمات عربية وفارسية وتركية عام1834, وقاموس الفيروزبادي مترجم الي التركية عام1835, والبرهان القاطع وهو قاموس فارسي1836, والترجمان وهو كلمات عربية وتركية.1838 ومنها أيضا دوائر المعارف مثل معرفة نامة, وهي دائرة معارف تركية1836, وكليات أبي البقاء وهي عربية1838, وسفينة راغب في كل العلوم.1840 ومنها أيضا كتب مراسلات مثل كتاب الإنشا1836, وبديع الإنشا والصفات في المكاتبات والمراسلات1836, ورياض الكتبا وحياض الأدبا1836, وإنشاء عزيز أفندي1834, وإنشاء العطار1835,. ومنها كتب للقصص كألف ليلة وليلة1836, وكليلة ودمنة1836, طومي نامة أي كتاب الببغاء1838, لطائف نصر الدين خوجة1839, خمس نركس وهي حكايات تركية تأليف عبد الله الكيس1840, وحكايات علي ابن سينا وهي حكايات عن العفاريت. ثم كتب كثيرة في اللغة والدين والفلك والمنطق والأدب واللغات والتاريخ. ثم كتاب في علم الأخلاق اسمه أخلاق علامي1833, وكتاب في تفسير الأحلام اسمه خواب نامة1837, وغير ذلك كثير لا يحصي. وقد أورد المؤلف في الملحق العاشر لكتابه قائمة بمطبوعات بولاق منذ إنشائها في سنة1821 الي سنة1842 تشمل252 كتابا تشمل شرحا موجزا جدا لكل كتاب تاريخ النشر وسعر الكتاب. وهناك إحصاءات أخري قامت بها مكتبة الإسكندرية تذكر أن حصيلة ما نشر في مطبعة بولاق في الفترة من1822 وحتي1894 يصل الي867 كتابا, وأن عدد الكتب في الفترة من18991850 يصل الي9538 كتابا.