يظل الوضع الإقليمي والدولي هو الأكثر تأثيرا علي مصير مصر ونظامها السياسي عن الوضع الداخلي وموازين القوي الاجتماعية والطبقية, فمصر هي أكثر البلدان تعرضا للاحتلال في العالم, توالت عليها الغزوات, غاز جديد يأتي ليحل محل الغازي القديم, ولم يلعب الشعب المصري دورا أساسيا في مجيء أو رحيل هذا المستعمر أو ذاك, ولم تذق طعم الاستقلال إلا مرتين منذ أفول العصر الفرعوني, الأولي عندما اضطر نابليون بونابرت إلي مغادرة مصر مع حملته, وكان علي أهلها أن يتولوا شئونهم, وإذا بهم يختارون محمد علي الضابط الألباني ليكون حاكمهم, عندما اجتمعت نخبتهم لبحث مصير البلاد بعد رحيل الحملة الفرنسية, وأعتقد أنها حالة استثنائية في التاريخ أن يختار المصريون أجنبيا بمحض إرادتهم ليحكمهم, عندما اعتذر عمر مكرم عن تولي المسئولية, لعدم خبرته بشئون الحكم والسياسة, وقد أتاح التوازن بين بريطانيا وفرنسا, وانشغالهما بالصراع فيما بينهما, فرصة ذهبية اغتنمها محمد علي, الذي تحولت مصر في حكمه من دولة كانت تعيش في ظلمات العصور الوسطي إلي دولة حديثة, ومشروع إمبراطورية كبيرة, امتدت حدودها من جنوب السودان إلي الحدود التركية, وضمت الشام والحجاز, وكاد الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا يطأ أوروبا, لكن تدارك كل من بريطانيا وفرنسا للقوة المصرية التي بزغت بسرعة, جعلتهما تعلنان الحرب علي مصر, واغراق أسطولها, ووضع شروط تقلص قوتها, ليعود الاستعمار البريطاني إلي مصر عام1882, وينهي انتفاضة أحمد عرابي. وكان الاستقلال الثاني عام1954 بعد انهيار الامبراطورية البريطانية عقب الحرب العالمية الثانية, وأفول نجمها لصالح القوتين البازغتين, وهما الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا, وكان التوازن بين القوتين فرصة أخري اغتنمها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ليؤسس دولة مصرية مستقلة, لكنه واجه مؤامرات إقليمية ودولية وارتكب أخطاء وضعت حدا سريعا لطموحه, ورغبته في توحيد العرب. جاءت الفترة الأشد ظلمة علي مصر بعد خضوع مصر للتبعية الأمريكية علي يدي أنور السادات ومن بعده حسني مبارك, وزاد من قتامتها انهيار الاتحاد السوفييتي, وانفراد الولاياتالمتحدة بحكم العالم, وهو ما ساهم في زيادة حدة التبعية, وضعف فرص المقاومة, خاصة في ظل تراجع موجة الاستقلال في المنطقة العربية, وخفوت نجم دول عدم الانحياز. بدأ الضعف يدب في أوصال الامبراطورية الأمريكية, التي تحاول أن تستعيد سطوتها بالقوة العسكرية, وغزت العراق لتجعل بداية انطلاقة جديدة, لكنها تعثرت, لتعود بمخطط الشرق الأوسط الكبير, لكن المفتت والمقسم بالفوضي الخلاقة, مستعينة بالجماعات التكفيرية, لكن مشروعها آخذ في التردي والخسارة من جديد. ان بزوغ قوي جديدة مثل الصين وروسيا وغيرهما يمنح المنطقة, خاصة مصر, الفرصة في إعادة إحياء المشروع الاستقلالي, وكسر طوق التبعية, مع بداية انحسار الموجة الاستعمارية الأخطر عن المنطقة, وانكسار الجماعات الإرهابية المدعومة من دول إقليمية, يحركها حلف الناتو بقيادة الولاياتالمتحدة. إن دحر الإرهاب في كل من سورية والعراق ومصر وليبيا يمنح فرصة جديدة لكسر طوق التبعية الأمريكية الآخذة في الذبول, لكنه طريق صعب, خاصة في ظل وجود دول إقليمية وقوي داخلية من مصلحتها الإبقاء علي طوق التبعية, والتي ستبدي مقاومة شديدة لأي مشروع استقلالي حقيقي, يبني دولة حديثة وقوية. إن معارك حلب, في شمال سوريا, وبغداد وعدن وبني غازي تقارب في أهميتها لمصر إزاحة مبارك وجماعة الإخوان عن الحكم, فلا يمكن تحقيق الاستقلال والتنمية الحقيقية إلا مع الكسر الكامل للمشروع الاستعماري الجديد بقيادة أمريكا, وإفشال مخطط السيطرة علي سورية والعراق وليبيا, والذي كان يستهدف إعادة المنطقة إلي العصور الوسطي, من خلال حكم الجماعات التكفيرية, وفي مقدمتها جماعة الإخوان, والدول الداعمة لها في المنطقة. ويأتي دور النخب الوطنية, وقدرتها علي استنهاض عزيمة القوي الشعبية, لتكون وقود حركة وطنية وشعبية قادرة علي مواجهة التحديات, وإقامة دولة العيش والحرية والعدالة والكرامة.