سنة1953, عندما كان القرش المصري الذي يحمل رأس الملك فاروق,والقرش المخروم ثروة في أيدي أطفال بنغازي يشترون به حلوة الديك,وصل المرحوم كمال الدين حسين,وزير التعليم وعضو مجلس قيادة ثورة23 يوليو, إلي بنغازي ليفتتح المركز الثقافي المصري,الذي صار قبلة يومية للشباب. وبسبب قربه من بيتنا,استمريت لثلاث سنوات متتالية من رواده,أتصفح مجلة السندباد أحفظ منها جملا كاملة صم,وأرددها متباهيا أمام تلاميذ فصل5/3 بمدرسة الأمير. بعد ذلك صار من حقي بسبب انتظام ترددي الاستعارة,بموجب بطاقة ما زلت أحتفظ بها,وقلدت الشباب واتجهت نحو أرفف الروايات وتطورت ملكة الحفظ,فحفظت: إلهي لا تشقينا بالحب مرتين فتجعلنا نحب من لا يحبوننا! مع مقاطع عديدة من روايات محمد عبد الحليم عبدالله ولكنني لم أر أبدا شجرة اللبلاب التي كانت عنوانا لرواية من روايته إلا بعد أن زرت مصر لأول مرة سنة.1962 ظلت مصر لجيلي كما لو أنها بلدهم الثاني,مثلما هي لي الآن. كانت قبلة للشباب العربي,فلقد نجح,بامتياز,المرحوم الزعيم جمال عبدالناصر في خلق الهوية العربية,بعدما كان شباب العرب,في ذلك الوقت,يبحثون عن هوية, فتجد من تطلين,ومن تفرنس ومن يصر أن يرطن بالتركية. أوجد الزعيم القومية العربية,وصارت العروبة هويتهم,وأصبحوا يعتزون بها ويحاربون من أجلها,حتي شوهها الحاقدون من بعد هزيمة حرب يونيو1967, ثم جاهروا بعدائها من بعد رحيل البطل سنة.1970 وبعدما اختلف العرب بشأن هذه الهوية,دافع البعض عن حالة التنكر هذه,فخلقوا تكتلات عربية,أيضا,ولكنها قزمت اتساعها. شرع الشباب العربي يبحث عن بديل لها فكانت الهوية الإسلامية وأبعدت الهوية العربية,في حين أن الهوية الإسلامية كانت ملازمة للهوية العربية,من البداية ولم تتنكر لها. قال لي صديق,في معرض حديث عن عشق مصر:مصر إن أحببتها أحبتك,وإن كرهتها كرهتك! وهذا حق,فالمرء لا يري سوي الحسن من حبيبته,أما إن كرهها فلا يري منها إلا القبح! وهذا ما يجعلني أستغرب من ردود افعال الطلبة,العرب بصفة عامة,والليبيين بصفة خاصة! لا وسطية لديهم في علاقتهم بمصر;أما أن يعود بالطالب حنينه إلي مصر,بمجرد أن يطمئن علي أسرته,أو ينسي تماما ذكرياته ولا يعود إليها بوله من عشقها. لقد نجح الزعيم عبدالناصر في مد الجسور من وإلي مصر,وحاول,من بعده نظام القذافي تفعيل الشيء نفسه, وقد نجح في ذلك إلي حد ما,غير أن سوء تفعيل إنجاح الجسور التي امتدت من ليبيا ظلت مرهونة بعلاقات سياسية. ولكن لماذا أهذي في شأن أعتقد أنه معروف للجميع؟ أقول لكم, إن واقع الجوار والمصاهرة, خصوصا بين شرق ليبيا وغرب مصر,بالإضافة إلي التضاريس الممتدة من برج العرب حتي رأس أجدير متطابقة تماما,فرضت حالة واقع المصير المشترك,ولعل ما يحدث في الأزمات أكد ذلك,فلقد افتتحت بيوت إخواننا المصريين بامتداد الطريق من الحدود حتي الإسكندرية عندما تعرضت بنغازي للتهديد بمحوها يوم2011/3/19, ولعل عدد النازحين بسبب الحرب في بنغازي حاليا يؤكد هذه الحقيقة,ولو عملت مؤسسات المجتمع المدني بتنسيق ودراسة عملية لما كانت هناك مشكلة نازحين مثلما هي قائمة الآن! فمثلا لو أنشأنا جمعيات صداقة مشتركة ما بين الليبيين والمصريين مبنية علي أسس علمية, ليست جهوية, وليست استغلالية فالنتائج تكون مثمرة للغاية,وليس بالضرورة أن تكون هذه الجمعيات شاملة مثلما كانت من قبل,تضم مجالات متنوعة كافة,وإن تقلصت,واقعيا,في الجانب التجاري فقط..قد نؤسس لجمعيات متخصصة:للشئون الأكاديمية,أو الرياضية, أو الإعلامية..وبالتأكيد الاقتصادية والزراعية..في تقديري أنها ستنجح وستلاقي قبولا واهتماما يدعم أمن واستقرار البلدين. الأمر لا يحتاج إلا لنوايا طيبة وهي بالتأكيد متوفرة عند الخيرين في مصر وليبيا..فالصداقة شجرة لبلاب لا تحتاج إلا لأيادي حانية خلاقة توجه أغصانها فتتشابك وتغمر المكان ظلا وجمالا, وبهاء.