تألقت في سماء القاهرة وحلقت بأجنحتها الشفافة وثقافتها وملكتها الادبية في الاوساط الثقافية والفكرية والادبية وومضت كالشهاب بأنوثتها وعذريتها في مجتمع الرجال الذين التقوا في صالونها الادبي وحرصوا علي الالتفاف حولها واستلطافها وظلوا يرفون كالفراش مستعدين بالضياء والنور المنبعث منها ومن حضورها القوي بينهم. وماري زيادة الاديبة الشهيرة بمي زيادة موضوع حديثنا من مواليد عام1886 وقدمت الي القاهرة مع والدها إلياس زيادة ووالدتها نزهة معمر عام1911. وبدأت مي بإصدار ديوان زهران حلم باللغة الفرنسية وهي مازالت فتاة في ربيع العمر, وبعد أن اشتري والدها مجلة العروسة من صاحبها عزيز الزند وكتبت بها بابا ثابتا بعنوان يوميات فتاة بجانب مجموعة من المقالات الادبية والوجدانية طرقت الشهرة ابوابها بشدة. ولم تكتف مي بالكتابة في مجلة واحدة بل كتبت في عدد من المجلات والجرائد فازدادت شدة وطوقتها الاضواء. عهد بعدم الزواج وقبل أن يلقي قارب مي مرساته في القاهرة كانت قد تلقت تعليمها منذ الخامسة أو السادسة من عمرها بمدرسة الراهبات اليوسفيات ثم انتقلت الي مدرسة الراهبات العذراوات في بيروت وشدتها حياة الراهبات في هاتين المدرستين وفي الاديرة التي زارتها في فلسطين وعين طورة في لبنان. وقد ترك ذلك تأثيره عليها, وظلت منذ صغرها تميل الي التطهر والبتولية والعذريةPuritanisme اقتداء بالعذراء البتول, حتي اخذت علي نفسها عهدا بألا تتزوج. وامتدادا لهذا التوجه مالت إلي حياة العقل والروح والتطلع إلي المثل العليا في الحياة. ولم يدرك أدباء مصر وشعراؤها ومفكروها هذه الحقيقة وهم يقعون في هواها, أو فلنقل حتي وإن أدركوها فإن ذلك لم يمنعهم من الوقوع في هواها واتخاذها ملهمة لهم. وتحولت مي إلي قصة في حياة معظم أدباء هذه المرحلة الذهبية في تاريخ مصر والعالم العربي. ولم يكن من أحب مي من المصريين فقط, بل هناك في الطابور أدباء من العرب, تطلعوا إلي نيل رضاها وهناك من راسلوها وتلقوا رسائل منها. فتاة عادية والمثير للدهشة أن مي لم تكن بالفتاة الجميلة, كانت سمراء عادية الملامح إن لم نقل أقل من العادية, أي لم يكن بها شيء لافت للنظر, ولم تكن ذات أنوثة متفجرة أو مستفزة. وكان سلوكها متحفظا, وحوارها جادا, وكلماتها منتقاة, بل كانت في كثير من الأحيان خاصة عندما تدافع عن قضية المرأة أكثر نضجا في التعبير عن آرائها وأكثر تقدمية من كل الرجال المحيطين بها, وكانت في خطابها المباشر أو في كلماتها الموجهة عبر رسائلها قاسية إلي حدما, وكثيرا ما طلبت لمن تحدثهم الهداية. وبالرغم من كل هذا سقط كل هؤلاء في بحار هواها. وإذا كان الكثيرون من الأدباء والشعراء والمفكرين والكتاب قد أحبوا مي, وطمعوا في القرب منها إلي اكثر مما أباحت ورضيت, بل هناك منهم من عرض عليها الزواج فعلا ومنهم من ألح عليها لتتزوجه, فإن المقطوع به الآن وبعد مرور هذه السنين أن مي لم تحب أيامنهم. لقد قيل الكثير, ومن بين ماقيل لتبرير رفض مي كل عروض الزواج, أنها أحبت في مطلع صباها, وأن هذا الحب قد رسب في أعماقها فهي تواقة دائما لتذكره كلما هاجت بها الخواطر, وتبحث عنه فلا تجد إلا الحرمان. ويؤكد العقاد في كتابة رجال عرفتهم أن مي كانت تتحدث قليلا جدا عمن يخطبونها كأنما تعتذر لرفض الخطبة بعد الخطبة لغير سبب وجيه في رأي الأصدقاء الذين قد يلومونها علي إعراضها الدائم عن الزواج. أما إيمي خير أخلص صديقات مي فلا تنكر الناحية العاطفية الجنسية في شقاء مي ومحنتها, وتقول إنها كانت فتاة تأمل أمل الفتيات, وتحلم أحلام الفتيات, ولكن الأقدار باعدت بينها وبين الزواج. الحبيب المجهول وتصور المعاصرون لها أن هناك حبيبا مجهولا وراء إعراضها عن الزواج, ورشحوا أسماء عديدة, فقالوا إنه الشاعر اسماعيل صبري وقالوا إنه الدكتور شميل طبيب العائلة الخاص, وقالوا إنه منصور فهمي, وقالوا إنه ابن عمها جوزيف زيادة. وزعموا أنها كانت تبادله الرسائل وكان منافسا لجبران خليل, وقالوا إنه انطون الجميل حتي أشيع أنه سيتزوج بها, وأنه رفض الزواج من غيرها حتي وفاته من أجلها وأنه كان يلقبها بالبيبي ورشح البعض أحمد لطفي السيد فارسا لأحلامها. ويؤكد وديع فلسطين أن أقوي علاقاتها مع ضيوف صالونها كانت مع أحمد لطفي السيد. كذلك رشحوا الشاعر ولي الدين يكن, ورشحوا جبران خليل جبران وقالوا إنها اتفقت معه علي لقاء, ومن هنا تنأثرت الشائعات بأن جبران كان هو حب مي الأكبر وإنهما سيتزوجان عند لقائهما الذي اتفقا عليه. ولكن كان حبا علي الورق لم يتوجه لقاء, ومات جبران ولم تعرف مي منه إلا صورته وعواطفه المشبوبة التي بثها لها في رسائله. وقالوا إن هذا الحبيب هو العقاد, وزعموا أن المعركة التي قامت بينه وبين الرافعي كانت بسبب منافستهما علي كسب عواطف مي. الرافعي والعقاد ولمصطفي الرافعي قصة طريفة فهو يكبر مي بأكثر من ثلاثين عاما, ويقيم في طنطا مع زوجته وأولاده العشرة وقد وقع في هوي مي وكتب ثلاثة كتب هي رسائل الأحزان. والسحاب الأحمر وأوراق الورد. وليس هناك ما يدل علي أن مي أحبت الرافعي أو حتي شجعت هذا الحب, فحب الرافعي لم يكن سوي حب من جانب واحد, وليس في كتب الرافعي سوي رسائل موجهة الي مي, وإن شئنا الدقة فهناك رسالة واحدة قصيرة عامة في معانيها ليس فيها أي معني خاص وليس بها ما يوحي لا من قريب ولا من بعيد بأي علاقة خاصة وردت في كتاب أوراق الورد. ومع هذا خاض الرافعي معركة سميت معركة السفود مع العقاد للمنافسة علي كسب عواطف مي!! ولقد تبادلت مي الرسائل مع الكثيرين من رواد صالونها الذين كانوا يبادرون دائما بالكتابة إليها, ويختلقون المناسبات لكي يكتبوا لها, ويهدوها كتبهم أو دواوينهم أو قصصهم ورواياتهم أو انتاجهم.. ويؤكد ابراهيم عبد القادر المازني أن رسائل مي الي أصدقائها, ومنهم الرافعي لم تشتمل غير آرائها في الحياة والأدب والكتب وما الي ذلك. ويصعب جدا أن تصدق أن مي كانت تتناول في رسائلها أمورا شخصية إلا إذا قدم الدليل علي غير ذلك. وحتي الآن لم يقم دليل علي غير ما قاله المازني رغم مرور كل هذه السنوات. كيف وقعوا في هواها؟ ولكن يظل السؤال كيف سقطت هذه الكوكبة اللامعة من المفكرين والأدباء والشعراء والكتاب والصحفيين في أسر هوي هذه الأديبة الشابة القادمة من لبنان؟ كيف سقط أحمد لطفي السيد وتوفيق الحكيم والعقاد والرافعي ولطفي جمعة وانطون الجميل رئيس تحرير الأهرام واسماعيل صبري ومنصور فهمي وغيرهم في هوي مي وهم من هم في عالم الأدب والفكر والصحافة والشعر؟ وفي البداية يجب أن توضح أن مي كانت كتومة جدا, ولم تكن تبوح بأسرارها الخاصة, ولا بأسرار من يعرضون أنفسهم عليها عشاقا ومحبين, وكانت بذكاء ترد عروض الزواج برقة شديدة جدا, أما أحاديث الغرام, فكانت تحولها وتدير دفتها الي أحاديث عامة دون أن تجرح مشاعر محدثها. وكانت تدرك بأنوثتها وفطنتها وحاستها السادسة معني نظرات الرجال ودلالات كلماتهم كما كانت رسائلهم وما بها من بوح ومكاشفة تؤكد لها ما فهمته ولكنها كانت وحتي آخر لحظة قادرة علي ألا تجرح أحدا وعلي ألا تخسر صديقا أو رائدا من رواد صالونها. وكان الجميع تقريبا يطلبون أن يزورونها زيارات خاصة في منزلها من وراء ظهور الجميع, وقد أتاحت الفرصة لكثيرين لنيل هذه الخطوة, ومنهم لطفي السيد وانطون الجميل ولطفي جمعة, وسمحت للبعض بان يتردد عليها أكثر من مرة. وكانت تترك للجميع الفرصة. ليعبروا عن أنفسهم دون مقاطعة منها. فقد كانت تجيد الاستماع, وعندما يأتي عليها الدور لنتحدث لم تكن تتهرب من الرد, بل كانت تنتفي الكلمات بعناية وكثيرا ما أشارت إلي تاريخ حياتها, وتأثير البيئة الدراسية الأولي عليها, وأنها اختارت بإرادتها أن تمضي علي طريقة البتولية والتطهرPuritanisme. ثم تنتقل بالحديث إلي القضايا العامة الفكرية والأدبية. ولأنها كانت قارئة ممتازة لما يكتبون, وناقدة لأعمالهم ووجهات نظرهم, فقد مكنها ذلك من الإفلات بيسر من حصار الأحاديث الخاصة, ودفع محاوريها للدفاع عن أنفسهم وعن الآراء التي طرحوها ومحاولة إقناعها بها. التملك الإلهام النضج ومازلنا نتساءل كيف وقع كل هؤلاء ومرة واحدة في هوي فتاة واحدة ؟ وكيف حاول كل منهم أن يفوز بها وحدة اقتناعا بأنه الاجدر بها؟ هل تكمن الإجابة في خاصية التملك والاستحواذ التي تحتل جانبا مهما من عقلية الرجل الشرقي؟ فكل من هؤلاء بالرغم من استفساراتهم, وتلقي الكثيرين منهم لدراساتهم بالخارج, لم يستطع أن يتخلص من أسر الرغبة في التملك والاستحواذ. وما أن وقعت عيناه علي فتاة حتي لو كانت أديبة وشاعرة حتي تحركت كوامن هذه الرغبة وبدأ يتحرك بكل قواه من أجل الفوز بها. ولكن هذه الإجابة وحدها لاتكفي, قد تكشف جانبا أو بعدا واحد ولكن تظل هناك جوانب أخري. وربما يكمن جزء من الإجابة في رغبة الأديب أو الشاعر في العثور علي ملهمة وكانت مي بثقافتها وسعة أفقها وحسن إدراكها وتفتحها وقدرتها الرائعة علي حوار هذه الصفوة الأدبية والفكرية بشياكة وثقة بالنفس وفهم عميق لقضايا الحوار تمثل نموذجا هائلا للملهمة تجسد في مجتمع شرقي لم تتح فيه للأنثي الفرصة المناسبة لا في ميادين العلم أو الثقافة أو الاجتماع لتكون مؤهلة لمثل هذا الدور بكل هذا الاقتدار. ولأن مي جسدت دور الملهمة, فقد سعي الكثيرون من رواد صالونها للاستئثار بها كملهمة ولأن طريق الحب والعشق لم يكن صالحا للجميع فقد عرض عليها البعض الزواج أما الآخرون فقد باحوا يمكنون عواطفهم قولا وكتابة. وتظل هناك جوانب أخري. ومنها ما يطرح تساؤلا مهما, هل يمثل هذا الموقف انعكاسا لموقف غير ناضج بالنسبة للأنثي بصفة عامة؟ فكل أنثي تصلح للحب والعشق والزواج حتي لو كان الرجل متزوجا حتي أتيحت له الفرصة ليراها أو ليحاورها, أي أن العقلية الشرقية لا تستطيع أن تتصور علاقة أخري بين الرجل والمرأة غير الحب والعشق والزواج حتي لو كان الرجل والمرأة من مستوي فكري وثقافي يرقي إلي مستوي الأديب والشاعر. وكان من نتيجة هذه العلاقة بين رواد الاستنارة الفكرية والأدبية في مصر ومي, مجموعة من الكتب, موضوعها مي. من هذه الكتب كتاب للعقاد بعنوان رجال عرفتهم كتب فيه فصلا بعنوان رجال حول مي أما الرافعي فكتب ثلاثة كتب كلها عن مي هي رسائل الاحزان و السحاب الأحمر و أوراق الورد وكتاب لجميل جبر بعنوان مي وجبران وكتاب لوديع فلسطين بعنوان مي, حياتها وصالونها وأدبها. واختصارا كتب عنها الجميع إما كتب أو فصولا في كتب أو مقالات أو دراسات وتبقي نقطة أخيرة هل كانت مي امرأة مسترجلة ؟ ويؤكد سلامة موسي, أنها كانت أبعد النساء عن الاسترحال وأشدهن أنوثة وأنها قالت له.. إني أكره المرأة المسترجلة, واعتقد أن وظيفة المرأة الحقيقية أن تكون أما وزوجة. ومما لا شك فيه أن مي كانت شخصية نسائية, وأنها أنثي لها قلب ينبض بالعواطف ويعزف كل المشاعر الأنثوية, ولكنها كبحث نداءات القلب وفور ان العواطف حتي أخذ العمر يتقدم بها, وخلا صالونها من رواد, وتحولت حياتها إلي خواء, فركبها الهم والقلق والرعب. وكلما تقدمت بها السن زاد توترها العصبي وقلقها, فبدأت آثار المرض النفسي تظهر عليها وانعكس ذلك علي حالتها الصحية حتي انطوت صفحة حياتها وإن بقيت ذكرياتها حية لاتنسي.