سنة 1955، كنت بالتأكيد تلميذا بالسنة الثالثة الابتدائية، فلقد ارتبط اليوم الأول من تلك السنة بحادثة طريفة، مر عليها أكثر من ستة عقود عليها، وما تزال ماثلة أمامى حتى الآن، بتفاصيلها كما لو أنها حدثت منذ ساعات! وكأننى أسمع الأستاذ يأمرنا، نحن تلاميذ فصل 3/5 بالجلوس، بعد ما قمنا له للتحية الصباحية. كتب كالعادة، التاريخ أعلى يمين السبورة، وفى منتصفها موضوع الدرس ثم التفت نحونا وسأل متبسما: "من منكم انتبه إلى شيء يختلف عما كتبته على السبورة يوم أمس؟" لم ينتبه أحد باستثناء تلميذ مصرى اسمه: إبراهيم خفاجة، والده طبيب أسنان، عيادته التى لعلها كانت الوحيدة فى بنغازي، تقع فى أول شارعنا، وكان يعالج سكان الشارع بالمجان. صارت يد إبراهيم المرفوعة، كرادار،تتابع حركة الأستاذ، الذى قال له: "أنا اعرف يا إبراهيم، أنك تعرف الإجابة؟ ولكننى أريد صنما من هذه الأصنام أن ينطق!" ولكن الصمت أطبق علينا بالكامل! لا يد ترتفع إلاّ يد إبراهيم! أخيرا سمح الأستاذ له بالإجابة، فقال:"التاريخ كان يوم امس 1954 واليوم صار 1955. اليوم بداية عام جديد يا أستاذ، كل سنة وأنت طيب!". مغص أصاب معدتى من الغيرة! فقلت للأستاذ، دون وعي: "إنه يعرف الإجابة من أبيه إنه طبيب أسنان يا أستاذ!". معظم أسرنا، فى ذلك الوقت، عاشت زمن الاستعمار الإيطالي، ثم زمن الحرب العالمية الثانية،فكانت جيل الأمية والفقر! تذكرت إبراهيم خفاجة، عندما قرأت فى "الفيسبوك" عن فك أسنان وجدوه بمومياء فرعونية، أجريت له عملية دقيقة ثبتت بها الأسنان بسلك من الذهب. القواطع الأمامية مثقوبة بدقة متناهية ومثبتة بالسلك. وخطر لى الرعب الذى ينتابنى بمجرد أن افتح فمى لطبيب أسنان، وخطر عليّ طلبة أسنان، كلية طب أسنان القاهرة، سنة الامتياز للعام 1973 الذين وفدوا إلى بنغازى كمجموعة الدكتور القريتلي، بغية الممارسة العملية، فكُلفتُ عندما كنت مسجلا لكلية طب بنغازي، آنذاك، بمرافقتهم. كان برنامج العمل هو العمل الميدانى بالقرى القريبة. لم تكن آنذاك عيادات متخصصة فى تلك القري، وكانت الجولة ناجحة، مثمرة وقد سألت أحد الشيوخ، من تلك القري:كيف كانوا يعالجون أسنانهم؟ فأجابني:«بخيط متين»! عرفت منه أنه يُربط بأحكام فى السن المصابة، ويقوم أحد رفاقه بجذبه بالقوة فتقتلع السن. يحدث هذا فى هذا الزمن! ولكن للفراعنة رأى آخر، منذ سبعة آلاف سنة، فى معالجة أسنانهم! وقرأت تعليقا لأحد متابعى هذا الموضوع، يقول:إن الفك يعرف باسم «فك فورد» وهو معروض بالجامعة الأمريكية ببيروت، وقد وجد فى صيدا فى القرن الخامس قبل الميلادي. أما نشره بالمجلة العلمية، باعتبار أنه فرعوني، فنتيجة خطأ! ولكن لماذا لا يكون، هذا الفك، مثلا لأثار الفرعونية العديدة التى هُربت خارج مصر؟ مثل المجموعة الموجودة بمتاحف بريطانيا وحدها، والتى تضم 13 مليون قطعة؛ منها مجموعة (وندورف) التى تضم 6 ملايين قطعة أثرية يرجع بعضها إلى عصور ما قبل التاريخ. ولقد خطرتْ عليّ غيرتى من إبراهيم خفاجة! وفكرت ان أكتب له تعليقا ساخرا، خلاصته أن الفك قد وجد، فعلا، فى صيدا، ولكن ثمة بردية فرعونية تقول: أن رجل من صيدا جاء إلى مستشفى الكرنك الفرعوني، وعالج أسنانه عندما قرر الفرعون تحتمس تنشيط السياحة العلاجية فى ذلك الوقت! وفى رحلة عودته تعطل فى ميناء نويبع بسبب السلك الذهبي، الذى يثبت أسنان الفك! وسواء أكان الفك فرعونيا أو شاميا أو بغداديا يظل العجب قائما:كيف تمكنوا من تخدير الفك قبل ثقب القواطع؟ فألم الأسنان مؤلم ومزعج، منذ فتح الفم، وتحسس الطبيب لأسنان المريض بالكشّاف، أو الكلاّب المعدني، حتى وخز إبرة تخدير اللثة وأعصاب الأسنان.هذا هو السؤال وليس ضرورة معرفة جنسية الفك، فالإنسان هو الإنسان فى كل مكان!.