كانت حملة نابليون إلي مصر تضم حوالي170 عالما من أشهر علماء البشرية عبر العصور كلها, وعهد إليهم إنجاز مشروع عظيم وهو كتابة وصف مصر. لم يقصر هؤلاء العلماء العظماء فكتبوا كتابهم المشهور زائع الصيت وصف مصر الذي هو بحق أكبر إنجاز للحملة الفرنسية. وبتولي الخديوي إسماعيل الحكم في يناير1863, أسند إلي علي مبارك الكثير من الأعمال الإستراتيجية الهامة التي كانت تمثل مشروعه الحضاري النهضوي لإحداث نقلة نوعية في مصر عموما وفي القاهرة علي وجه الخصوص وما كان يحلم به لمصر وأهمها مشروع إعادة تنظيم مدينة القاهرة لتكون قطعة من أوروبا, هذا بالإضافة الي تعيينه للإشراف علي احتفالية قناة السويس وإدارة السكك الحديدية ونظارة عموم الأوقاف, إضافة الي تعيينه ناظرا علي القناطر الخيرية وتعيينه وكيلا عاما لديوان المدارس, وديوان الأشغال العامة. كان الرجل وكأنه دولة مختزلة في شخص واحد وكأنه جامعة حديثة.. هذا العملاق تولي ثلاث وزارات, أجاد في جميعها وهي وزارات المعارف والأوقاف والأشغال العامة. كل هذا دلالة علي تفرد الرجل وتميزه والذي يجعله بالقطع من أعظم الوزراء في كل المجالات في تاريخ مصر. كان مجددا أمينا يتبع الأصول ولا يتجاهل الخطط القديمة ويتبعها بالجديد ويركز علي واجبه الوطني ورغم كثرة الأعمال والأحمال والمشاغل, إلا أن علي مبارك كان يجد وقتا للكتابة الهامة ليسجل لنا من خلالها تاريخا حافلا ومدونا لأعمال جادة باقية الأثر في تاريخ مصر الحديث, لا تقل شأنا عن وصف مصر الذي أنجزه170 عالما فرنسيا.. ترك علي مبارك العديد من المؤلفات الأصيلة, غير أن ما يعنيني هنا موسوعته الرائدة:الخطط التوفيقية الجديدة لمصر...القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة والذي اشتهر بالاسم المختصر: الخطط التوفيقية, لتحوي تاريخ القاهرة ومصر منذ العصر الفاطمي حتي عصر الخديوي توفيق. كتبه علي مبارك علي غرار خطط المقريزي والخطط الأخري, ليسجل فيه تجديدا وتحديثا ومواءمة ومواكبة للحداثة والتطور السريع الذي اختارته مصر لتكون حاضرة الشرق, ولتكون عاصمتها لا تقل شأنا عن أي عاصمة أوروبية مثل لندنوباريس. ربما يكون أفضل تشخيص كتاب أنه دائرة معارف مصرية شاملة, من العصر الفاطمي الي عصر توفيق لعبقرية المكان وتفرده والإسهاب في شرحه تاريخيا وجغرافيا وإنسانيا وهندسيا,وكأن كل حجر فيه أثر بالغ الأهمية. وقد حظي الكتاب باهتمام كبير من الباحثين في كل المجالات, حيث إنه المكمل والموضح لكثير من الأماكن والمعالم التي تغيرت أو اختفت بعد المقريزي, التي شملها كتابه: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. كان قدم العهد بخطط المقريزي وتغير الأماكن والحداثة هي الدافع لعلي باشا مبارك لكتابة كتابه, والذي تتبع فيه أثر من سبقه من المؤرخين في الخطط مثل ابن الحكم, وابن زولاق الليثي المصري, والمسبحي, وابن دقماق القاهري والمقريزي. لم يتأت كل ما فعله وكتبه علي مبارك من فراغ, فقد سلك دروبا مكنته أن يكون كذلك. كان تعليمه مميزا وجيدا, حيث التحق في بادئ حياته بمدرسة القصر العيني سنة1836, ثم مدرسة المهندس خانة سنة1840 وتخرج منها متفوقا فتم إرساله إلي بعثة للدراسة في فرنسا مع أنجال محمد علي سنة1845 مكنته من دراسة الفنون العسكرية والهندسة الحربية وفهم الحضارة الغربية ونهله منها الكثير وإتباعه للطريقة العلمية في الفكر والبحث, ومكنته أيضا من رؤية فرنسا عن قرب, والتي كانت حينها منارة العلوم والفنون, ومعرفة علمائها ومفكريها ومعماريها الذين كان ينصح الخديوي إسماعيل ليستقدم أفاضلهم في البناء والتعمير للقاهرة وبقية المدن المصرية, عاد بعدها ليعمل في الحكومة والتدريس والبحث والإطلاع علي كثير من الوثائق والمصادر الأساسية والأصيلة التي لا تتواجد إلا في مصر ذات التاريخ المنفرد والموقع العبقري الوحيد التي ساعدته علي إنجاز خططه علي أكمل وجه وعلي أساس علمي وعالمي عال وفريد. حدد لنا في مقدمته لكتابه مقولته الأساسية التي كتب من أجلها كتابه مقارنة مع الكتب السابقة بقوله:.... معرفة ذلك حق علينا, إذ لا يليق بنا جهل بلادنا, والتهاون بمعرفة آثار أسلافنا, التي هي عبرة للمعابر, وذكري للمدكر, فهم وإن مضوا لسبيلهم, قد تركوا لنا ما يحثنا علي اقتفاء آثارهم, وان نصطنع لوقتنا ما صنعوه لوقتهم, وأن نجد في طريق الإفادة كما وجدوا, دعتني نفسي لتأليف كتاب واف للمصرين من قديم وحديث. إذن الرجل مجدد أمين, يتبع الأصول الراسخة والعادلة فيما يقدمه, كان يذكر الخطط القديمة ثم يتبعها بذكر ما تحولت إليه, ثم يذكر أن واجبه الوطني يحتم عليه استكمال المسيرة لتحوي وتشمل التغيرات الحديثة التي تعرضت لها مصر والتي تعم العالم المتقدم. هذا كتاب يستعصي علي أن يكون كاتبه مفكرا وعالما واحدا, ولكنه عمل يحتاج مئات المشاركين لإتمامه, وهو ما فعله علي مبارك بمفرده.كتبه بإحساس شاعر مرهف, وعقل مهندس عالم, ورجل ملم بالحضارة الغربية إلماما تاما نتيجة المعيشة فيه والدراسة لمد مكنته من رؤية فرنسا من الداخل, وفكر حكيم تعكسه جملة قالها في ختام حديثه عن تاريخ القاهرة:.... السعادة كالشقا تلحق بالأمكنة والبلاد. كما تلحق بالأزمنة والعباد يقع الكتاب في طبعته الأولي في ست مجلدات نشرتها المطبعة الأميرية الأهلية عبر سنتين:1888-1889, وقد أعادت دار الكتب طباعته ليكون في عشرين جزءا, كتب مقدمته الدكتور جمال محمد محرز عام.1969 الكتاب يعرض تاريخ القاهرة ومصر منذ قدوم الفاطميين إليها حتي عصر توفيق, ويقارن أوضاعها القديمة بالأوضاع المعاصرة, ويصف بإسهاب أحياء القاهرة الحديثة, ثم يتحدث عن خطط القاهرة وشوارعها ودروبها وحاراتها مرتبة علي حروف المعجم, مع تحقيقات عن أوضاعها القديمة, منذ عصر المقريزي. يقول في المجلد الأول: وابتدأت الكتاب بهذا المجلد, فجعلته مقدمة له, لخصت فيه الكلام علي محل القاهرة منذ قدوم جوهر القائد, وعلي ما حصل لها من الأحوال والتغييرات بتقلب الأزمان وتداول الدول من عهد الدولة الفاطمية, وعلي بقية ملوك القاهرة الي الآن علي الإجمال, ثم يتحدث عن الجوامع, والمدارس والزوايا والمساجد والخانقاوات والأسبلة والكنائس, مرتبة علي حروف المعجم. ثم ينتقل بعد ذلك الي الحديث عن مدينة الإسكندرية وعن أقاليم الديار المصرية ومدنها وقراها, وترجمة أعيانها وأدبائها, وشعرائها, وأوليائها وأكابرها, مرتبة علي حروف المعجم. وبعد ذلك يتحدث عن الآثار الفرعونية, وأسهب في وصف أهرام الجيزة وماحولها. ثم يحدثنا عن الأماكن والوقائع والتراجم, وبعدها يسهب في الحديث عن مقياس النيل وتاريخه الممتد من عصر الفراعنة والحضارة الإسلامية وإبان الاحتلال الفرنسي ومهرجانات النيل. بعد ذلك يتكلم عن مشروعات الري الكبري التي لم يوجد لها مثيل في العالم, والرياحات والترع, ثم يختم بالحديث عن النقود وأشكالها وتواريخها وقيمتها في مختلف العصور, وعقد مقارنة بين قيمتها القديمة والحديثة. ثم يتحدث عن عصر محمد علي والذي سبقته أهوال مرت بها المحروسة أدت الي تغير الكثير مما تحدث عنه المقريزي في خططه. ويعتبر ما دونه علي مبارك عن حال القاهرة خلال الحملة الفرنسية علي مصر حجة دامغة علي المدعين بأن تلك الحملة هي أساس نقلة مصر إلي الحداثة: لم تمكث الفرنساوية بالديار المصرية زمنا طويلا, فإن مدتهم لا تزيد علي ثلاث سنين ومع ذلك حصل فيها حوادث شتي, خرب بسببها كثير من بلاد الإقليم, وتهدم كثير من دور القاهرة, وفارقها كثير من السكان, وقد تكلم الجبرتي علي هذه الحادثة وأسهب في شرح ما جري...سكنوا بيوت الأمراء, فسكن بونابارت منزل محمد بيك الألفي بالأزبكية, وسكن كل أمير منهم فيما أعجبه من بيوت الأمراء... وكانت العساكر تدخل البيوت وتنهب ما فيها من غير مبالاة, فحاق بالناس الكرب والخوف. عندما تحدث عن جغرافية مصر فهو عالم جغرافيا مدقق:.... القاهرة, وهي تخت الأقاليم المصرية, واقعة بين الأقاليم البحرية, والأقاليم القبلية, في عرض ثلاثين درجة وثمانية وخمسين درجة ودقيقتين وإحدي وعشرين ثانية للشمال, وفي طول ثمانية وعشرين درجة وثمانية وخمسين دقيقة وثلاثين ثانية شرقي مدينة باريس..وبعدها عن القناطر الخيرية خمسة فراسخ, وارتفاع أرضها لقرب النيل بالنسبة لسطح مياه المالح تسعة عشر مترا ونصف, وفي غربها علي النيل ثغر بولاق, وفي قبليها علي النيل أيضا مصر العتيقة ثم يستمر في تشخيص القاهرة جغرافيا: مدينة القاهرة مبنية في سفح جبل المقطم, وأرضها آخذة في الارتفاع الي قلعة الجبل, ولو فرض أن مستوي فيضان مياه النيل الأعظم حصل لوقتنا هذا, وهو عشرون مترا ونصف فوق سطح مياه المالح, امتد الي الجبل والي شبرا, الواقعة بحري القاهرة, لنتج أن جزء المدينة المحصور بين الشاطيء الغربي للخليج من ابتداء قنطرة السد عند فم الخليج,الي ترعة الإسماعلية وبولاق جميعها وماجاورها من الأرض, كل ذلك يكون تحت هذا المستوي- ما عدا مزلقان كوبري قصر النيل, فإنه يكون جميعه فوق المستوي بقدر ثلث متر في أوله وثلاثة أمتار في آخره عند القنطرة. ويستمر في ذلك الشرح الدقيق التفصيلي لكل موقع في القاهرة بطريقة لم يسبقه بها أحد من قبل. ثم يتحدث عن مطلب شكل القاهرة وأسوارها, ومطلب عدد الحارات والشوارع والسكك الجديدة والقديمة ومقاديرها ومساحتها, ومطلب توزيع المياه في القاهرة بالوابورات والمواسير ومقدار ما يصرف في القاهرة وضواحيها من المياه في السنة الواحدة. ثم يتحدث عن ميادين القاهرة فيقول: لما زالت الدولة الفاطمية كان عدد الميادين داخل القاهرة عشرة, وبقي ذلك في الدولة الأيوبية, الي زمن السلاطين الجراكسة, فكثر البناء داخل القاهرة وخارجها, ومع ذلك كان كل أمير يجعل أمام بيته رحبة متسعة, حتي بلغت هذه الرحاب العدد المذكور. ويستمر في سرد العديد من الميادين التي إنقرضت الآن, حتي يصل الي عهد محمد علي: ولما جلس العزيز محمد علي باشا علي تخت الديار المصرية وفرغ من الحروب التي عاناها اشتغل بإصلاح الأمور, وحذا حذوه خلفاؤه, فتنظمت الحارات والشوارع القديمة وفتحت شوارع وحارات جديدة, وعملت عدة ميادين, فصار في القاهرة وخارجها ستة عشر ميدانا. ثم تحدث عن تنظيم شوارع القاهرة: وأول من أدخل المباني الرومية في الديار المصرية هو العزيز محمد علي, فأحضر معلميه من الروم, فبنوا سراية القلعة, وسراية شبرا.... وأنشأ بستان الأزبكية, وأزال التلول التي كانت خارج باب الحديد وفي غربي القاهرة وفي زمن الخديوي إسماعيل تنظمت خطة الإسماعيلية والفجالة, وفتح شارع محمد علي, وعمل كوبري قصر النيل, وتنظمت جهة الجزيرة والجيزة... وبني سراية عابدين, وسراية الإسماعلية الصغيرة. ثم يشرح بالتفصيل تقسيم القاهرة وتوابعها إلي ثمانية أثمان مع بيانها:.. لم أر في خطط المقريزي, فإنه لم يتكلم علي تقسيم القاهرة, ولا الفسطاط الي أثمان. و أثمان مدينة القاهرة هي: ثمن الموسكي, وثمن الأزبكية, وثمن باب الشعرية. وثمن الجمالية, وثمن الدرب الأحمر, وثمن الخليفة, وثمن عابدين, وثمن السيدة زينب, وثمن مصر العتيقة, وثمن بولاق. ويستمر في بيان الإحصائيات الدقيقة عن عمارات القاهرة ومنشآتها وسكانها وصنائعهم ومختلف أحوالهم ومحلات العبادة التي تشمل الجوامع والمدارس والزوايا والمساجد والخوانق, ومطلب إبطال المدارس التابعة للمذهب الشيعي: ولما صارت مصر الي الأيوبية, وجلس علي تختها صلاح الدين أبطل مذهب الشيعة من جميع الديار المصرية, وأقام بها مذهبي الإمام مالك والإمام الشافعي, وأول مدرسة حدثت بديار مصر كانت بجوار الجامع العتيق بناها صلاح الدين سنة ست وستين وخمسمائة, وعرفت بالمدرسة الناصرية وكانت للشافعية ويستمر في إحصاء المدارس التي أنشئت عبر العصور حتي يصل الي عصر محمد علي وإنشائه العديد من المدارس بل أكثر من إرساله البعثات العلمية الي فرنسا وبقية الدول الأوروبية: ولم يكتف بذلك, بل جعل يرسل الي البلاد الأجنبية الإرسالات المتوالية من أذكياء الشبان للتبحر في المعارف, وجعل لكل فن من العلوم طائفة منهم, وقد نجح منهم الكثير, وحصل النفع بهم في مصالح البلاد, وفي سنة ستين ومائتين وألف أرسل أنجاله ضمن إرسالية كبيرة قدرها سبعون تلميذا, وفتح لها مدرسة مستقلة في مدينة باريس لتعليم الفنون العسكرية. ولم تزل الإرساليات تتعاقب, وتحضر لمصر, ويوظفون في المصالح, كتعليم الفنون الحربية والتعليمات العسكرية, وأشغال الهندسة كعمل المباني والترع والقناطر, وعمل الآلات وإدارة الورش واستخراج الزيوت وعمل الصابون والشمع والعطريات وتكرير السكر وعمل الأسلحة النارية والسيوف والسكاكين والمطاوي والساعات و طقومة الخيل وسبك المعادن وتركيب الأحجار الثمينة والحياكة والتجليد وصناعة الورق وعمل الاستحكامات.. وقد ظهرت ثمراته في البلد المصرية واستمرت الي الآن. وكان كلما علم بمزية في جهة أرسل إليها من يعهد فيه الاستعداد للحصول عليها, فأرسل الي بلاد الإنجليز وإيطاليا والنمسا وألمانيا, فانتشرت المعارف في البلاد المصرية, وبعد ذلك يشرح لنا بالتفصيل التعليم في عهد إسماعيل حتي عهد الخديوي توفيق.