للأسف اختلفت الكثير من المفاهيم الحياتية في وقتنا الحاضر عما جبلنا عليه في الماضي, وأكبر مثال علي ذلك الاختلاف هو مفهوم الهيبة أي أن نهاب شخصا, ونجله ونضعه في بؤرة الاحترام والتقدير, فمعني هذه الكلمة وتأويلها قد اختلف تماما حاليا, فقديما كان الشخص الذي يقال عنه أنه صاحب هيبة كان يتسم بالعلم والحكمة والتواضع والرحمة, ولذا كان الجميع يسبغون عليه أجمل الصفات وأجلها, ويضعونه موضع المثل الأعلي والقدوة, أما الآن فالشخص الذي يريد أن يرسم علي وجهه هذه الصفة أصبح يستخدم سلطاته التي حصل عليها بأي طريقة ما ليحكم ويتحكم في أقرانه, ويعاملهم بمنتهي التغطرس والكبر, ويتفنن في إيذاء كل من يقع تحت يده, وبالفعل يهابه الناس ويسبغون عليه أيضا هذه الصفة; لأنهم بالفعل يهابوه, وهكذا بعد أن كانت هذه الكلمة تقال للدلالة علي التواضع والاحترام, أصبحت في وقتنا الحالي تقال ولكن للدلالة علي الكبر والتحكم في الآخرين, فما أسهل تغير المعايير في كل الأزمنة. فمن منا لم يقرأ أو يسمع عن الخليفة المأمون, فهذا الرجل المتواضع قد استدعي في أحد الأيام صائغا, وسلمه قطعة من الياقوت الأحمر, كان جمالها يشع كالنور وطلب منه أن يزين بها خاتما ثمينا, وبعد أيام قليلة عاد الصائغ مصفر الوجه, وكان يرتجف بشدة, ففهم المأمون ما حدث, وحول وجهه بعيدا عن الرجل كأنه غير مكترث إلي أن هدأ اضطراب الصائغ وأقر للخليفة أنه عندما أمسك بقطعة الياقوت وقعت منه فانقسمت إلي أربع قطع, فقال المأمون للصائغ:لا بأس اصنع فصوصا لأربعة خواتم وأخذ يلاطفه حتي ظن من كانوا بمجلسه أنه كان من البداية يريد تقسيم الجوهرة إلي أربعة أقسام, ولكن ما إن خرج الرجل حتي قال المأمون لمن معه وهو في حالة أسف:هل تعرفون قيمة هذه القطعة؟ لقد اشتراها الرشيد بمائة وعشرين ألف دينار. فهذه القصة تدل علي أن هذا الرجل رغم هيبته كخليفة إلا أنه عندما رأي علامات الاضطراب والفزع علي وجه الصائغ حاول افتعال اللامبالاة, وعالج الموقف بحكمة شديدة; حتي يزيل الرعب من داخل الرجل, فهذه هي الهيبة الحقيقية, أما الآن فمن يسعده حظه بالوصول إلي موقع متميز إلي حد ما عادة ما ينهال علي من له سطوة عليهم بالتوبيخ والتأنيب, وإذا اخطأوا في حقه دون قصد لا يتورع عن إيذائهم, والنيل منهم, وفي هذه الحالة يعد نفسه من أصحاب الهيبة, وللأسف يتعامل معه الآخرون علي هذا الأساس, وهذا باختصار سببه تغير المفاهيم لدينا, حيث أننا صرنا ننظر لمن يتسم بالتواضع والتسامح إلي انه شخص ضعيف ليس لديه القدرة علي اتخاذ القرار, ولا يملك القوة للتصدي لمن هو أقوي منه, في حين أننا ننظر لمن يتصف بالقسوة والعنف والقدرة علي التحكم في الآخرين, وربما إيذائهم علي أنه شخص قوي له هيبة فنهابه ونخشاه. فهل يعقل أن تتبدل لدينا القيم إلي هذا الحد؟ فإذا نظرنا بروية إلي نتيجة رؤيتنا الخاطئة سنكتشف أننا بهذه المفاهيم نجبر أصحاب القلوب الرحيمة علي الاتصاف بسمات ليست فيهم; لكي يحصلوا علي الاحترام الذي يستحقونه, وهنا نتسبب في تغيير نفوسهم دون أن ندري, وفي ذات الوقت نساعد الغافلين الذين ماتت قلوبهم, واعتقدوا أنهم امتلكوا الدنيا بمن عليها علي الجبروت والتسلح بسلاح القسوة, وهنا سنربي جيلا جديدا من الجبناء المنافقين الذين يضطرون إلي التملق; لحماية أنفسهم من جبروت أصحاب الهيبة المتجبرة, لذا علينا أن نصحح مفاهيمنا, ونعلم أن القسوة ما أسهلها, أما الرحمة والتواضع مع العزة والكرامة هي الهيبة الحقيقية.