الانتشار: لم يبشر الوضع العام للتنظيم الدولي بخير, الأمر الذي أدي إلي تكثيف التوجه نحو الداخل( مصر), لذا لجأ رجال النظام الخاص في الجماعات, وبخاصة بعد وفاة الهضيبي(1973) إلي خطة تهدف إلي ضم شباب الجماعات الدينية, الذي بدأ ينتشر في الجامعات المصرية عقب هزيمة1967, في محاولة جادة لإعادة بعث الجماعة من جديد عبر ضخ دماء جديدة داخل أطرها التنظيمية, أغلب شرائحها من الشباب. فقد أحدثت هزيمة1967 شروخا نفسية عميقة خاصة لدي هذا الجيل, وأخذ ينمو داخله شعور بأن البعد عن الله وانطفاء جذوة الإيمان كانا سببا رئيسيا للهزيمة. وبدأت مجموعات من المحسوبين علي التيارات اليسارية والماركسية والناصرية في التحول إلي ساحة الأفكار الدينية أمثال خيرت الشاطر الذي كان أمين اتحاد طلاب جامعة الزقازيق آنذاك عام1968( النائب الثاني للمرشد العام لجماعة الإخوان حاليا). في هذا التوقيت بدأ تشكيل أولي خلايا تنظيم الفنية العسكرية وهو عكس ما عرف عن التنظيم من أن تشكيله بدأ عام1973. حيث يقول حسن الهلاوي أحد أعضاء التنظيم في مصر في نقاش أجريناه معه عام1995 في سجن مزرعة طرة: كان عمري عندما وقعت هزيمة1967 سبعة عشر عاما, وكنت طالبا في مدرسة السعيدية الثانوية وكان يزاملني فيها كارم الاناضولي وسعد دربالة, وكنا ندعو الناس للتمسك بالدين بصفة عامة والجهاد ضد الاحتلال الاسرائيلي وإقامة الدولة الإسلامية بعد طرد اليهود من فلسطين. ويضيف من هنا جاء التفكير في تشكيل تنظيم عسكري للقضاء علي نظام الحكم والوصول للسلطة وإقامة الدولة الإسلامية التي نسعي من خلالها لتحقيق تلك الأهداف. محضر نقاش مع حسن الهلاوي وللدكتور أيمن الظواهري شهادة مهمة في الإطار نرصدها من كتابه فرسان تحت راية النبي, حيث يحدد من خلالها طبيعة المتغيرات العاصفة التي لحقت بالمجتمع المصري في أعقاب هزيمة1967, ويكشف عن بلورة مناخ جديد أتاح الفرصة لازدهار وانتشار الأفكار والتوجهات ذات الطابع الديني. يعتبر الظواهري هزيمة1967 حالة من عودة الوعي إلي المجتمع المصري, بعد أن بدأ أبناء الشعب في العودة المتسارعة إلي الإسلام, فقد: اشتد عزم الحركة الجهادية التي أدركت أن الخصم اللدود كان صنما صنعته ماكينة الدعاية الضخمة وحملة البطش والاستقواء ضد الاسلاميين.( أيمن الظواهري: فرسان تحت راية النبي). ويصف الظواهري متغيرات تلك الفترة قائلا: أضاف الأحداث عاملا خطيرا أثر في مسار الحركة الجهادية في مصر, ألا وهو نكسة1967, وسقط الرمز جمال عبد الناصر, الذي حاول أتباعه أن يصوروه للشعب علي أنه الزعيم الخالد الذي لا يقهر.( أيمن الظواهري المصدر السابق). ويضيف: تحول الزعيم الباطش بخصومه المهدد المتوعد في خطبه إلي إنسان يلهث وراء حل سلمي يحفظ له شيئا من ماء وجهه. الأمر الذي دفع بالحركة الجهادية إلي إدراك أن الصنم قد نخر فيه السوس حتي أوهنه, ثم مادت به الأرض من تحته بزلزال النكسة, فخر علي أنفه منتكسا وسط ذهول كهنته وهلع عباده, فاشتد عزم الحركة الجهادية وأدركت أن خصمها اللدود كان صنما صنعته آلة الدعاية الضخمة وحملة البطش والاستقواء علي العزل والأبرياء.( أيمن الظواهري نفسه). ويتابع الظواهري: ثم تلقي الحكم الناصري الضربة القاضية بموت جمال عبد الناصر بعد ثلاث سنوات من النكسة, عاشها وهو يعاني من آثار الهزيمة, بعد أن تحطمت أسطورة زعيم القومية العربية الذي سيلقي بإسرائيل إلي البحر.( أيمن الظواهري نفسه). ولم يكن موت جمال عبد الناصر موتا لشخص, وإنما كان أيضا موتا لمبادئه التي أثبتت فشلها علي أرض الواقع, وموتا لأسطورته الشعبية التي تهشمت علي رمال سيناء. وفي هذا السياق, يمكن رصد عدة ملاحظات مهمة: أ أدت الهزيمة إلي تغيير ملموس في المزاج الشعبي المصري, وقادت الكثيرين إلي المزيد من التشبث بالدين, عبر ممارسات مختلفة, لتحقيق درجة من التوازن. ب تزايد وتصاعد النبرة الدينية في الخطاب السياسي للرئيس عبد الناصر, وفي جميع مؤسسات السلطة, وهو ما يعبر عن التوافق مع المزاج الشعبي من ناحية, ويكشف عن رغبة استثمار الدين والمشاعر الدينية الفياضة للتحايل علي الآثار السلبية للهزيمة من ناحية أخري. ج شروع السادات, نائب الرئيس, في إجراء اتصالات مع عدد من رموز جماعة الإخوان المسلمين, بمعرفة عبد الناصر, ولم تتوقف هذه الاتصالات إلا بعد رصدها أمنيا, وهو ما يعني انتفاء الهدف منها.( د. محمود جامع: عرفت السادات). ولهذا فلم يكن موت عبدالناصر نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة مغايرة إلي درجة القطيعة, ذلك أن السادات قد قاد تلك المرحلة علي طريق عبدالناصر وفق أسلوبه الخاص, لكنهما معا كانا يتفقان في التعبير عن تأثرهم بالمناخ الموضوعي العام. اتصالات سرية: لقد بدأ السادات اتصالاته السرية مع الإخوان المسلمين قبل رحيل عبد الناصر, وبتكليف شخصي مباشر من الرئيس ففي كتابه: عرفت السادات, يقول الدكتور محمود جامع إن السادات حاول تحقيق مصالحة تاريخية مع الإخوان المسلمين, وأبلغني أنه أخبر عبدالناصر بما سوف يقوم به من اتصالات. ويضيف الدكتور جامع: كانت الاجتماعات تستمر في منزلي إلي الواحدة صباحا تقريبا, وكان السادات يحضر بسيارة عبدالناصر, وقد كانت السيارة الوحيدة, وقتها, المزودة بتليفون, ولاسلكي من الخارج يميزها, كان عبدالناصر في زيارة للسودان وكان السادات يستخدم سيارته, حتي يمكن الاتصال به, في أي وقت, لأنه كان رئيس الجمهورية بالإنابة. وقد تصادف أن مر من أمام منزلي اللواء إبراهيم حليم, مفتش مباحث أمن الدولة, ولاحظ وجود سيارة رئيس الجمهورية, فسأل وعرف أنها هي فعلا, وسارع يكلف الرائد حامد محمد أحمد بمراقبة منزلي, ومعرفة ما يدور بداخله, بعدأن عرف أن السادات يجتمع عندي, كل ليلة, بعدد من الرموز والقوي السياسية. ثم ذهب إبراهيم حليم, وأخبر اللواء شعراوي جمعة, وزير الداخلية الذي غضب كثيرا, وقال ما معناه كيف أنه وزير داخلية ولا يعرف تحركات ولا خط سير رئيس الجمهورية بالإنابة. ( محمود جامع المرجع السابق). ويمكن أن نستكمل شهادة الدكتور جامع من خلال ما كتبه اللواء فؤاد علام, في كتابه الإخوان وأنا: حيث يؤكد علام ان هذه الاتصالات السرية مازالت لغزا غامضا حتي الآن رغم أن من صنعوها وشاركوا فيها مازا بعضهم علي قيد الحياة ولكنهم يرفضون الحديث عنها أو كشف أسرارها, ويؤثرون السلامة. ويضيف علام أنه أثناء المتابعة الدقيقة والقلقة لمنزل محمود جامع, حضرت سيارة ملاكي يقودها سائق وشخص يجلس في المقعد الخلفي, نزل ودخل مباشرة إلي البيت.. كانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لنا.. إنه السيد أنور السادات النائب الأول لرئيس الجمهورية. استمر اللقاء قرابة ساعتين, ولم نعلم شيئا مما دار فيه, لأن منزل الدكتور جامع لم تكن فيه أجهزة تسجيل أو تنصت.. والغريب أن اللقاءات السرية تكررت بنفس الأشخاص ونفس السيناريو ثلاث مرات في غضون أسبوعين.. ثم مرة رابعة في منزل السادات بميت أبو الكوم. ويضيف علام: شرعنا في اختراق هذه التجمعات وتسجيل تلك اللقاءات الغريبة... ولكن كان قرار شعراوي جمعة وزير الداخلية في ذلك الوقت هو أن نتابع ونرصد عن بعد ونحدد أسماء كل العناصر التي تحضر الاجتماعات, وشدد علي عدم اختراق هذه الاجتماعات إلا بتعليمات مباشرة منه. وكانت المفاجأة ان الاجتماعات توقفت بعد إخطار شعراوي, ولم نرصد أي اتصالات أخري بين أفراد هذه المجموعة أو بينهم وبين السادات.. وضاع منا الخيط الثمين الذي كنا بدأنا نجذبه. ويؤكد علام أنه التقي بالدكتور محمود جامع بعد ذلك بسنوات وسأله عن هذه اللقاءات.. وعلم منه أنه تقرر إيقافها فورا بعد أن وصلته رسالة من شعراوي جمعة بإيقاف هذه الاتصالات, وإلا فسيعرض الأمر علي الرئيس عبدالناصر... وأضاف علام انه لا يعلم دقة هذه الرواية, مشيرا إلي أن الدكتور جامع وحده هو من يتحمل مسئوليتها وهو علي قيد الحياة حتي الآن. ولفت علام إلي أنه فهم من جامع أن الهدف من هذه الاجتماعات كان محاولة السادات استقطاب الإخوان المسلمين وربطهم به, تحت شعار الوحدة الوطنية في تلك الفترة, سعيا نحو تجميع كل القوي السياسية في جبهة واحدة استعدادا للمعركة. ويعلن علام عن اندهاشه مؤكدا انه لا يعرف حتي الان كيف أبلغت للدكتور جامع رسالة شعراوي جمعة ولا من الذي قام بتوصيلها.. مضيفا أن اللقاءات كانت علي درجة عالية من الأهمية والسرية, لأنها كانت تعقد أثناء الليل وتحضرها القيادات الإخوانية المهمة مثل عباس السيسي احد القيادات في الغربية.. وكان السادات يأتي بدون حراسة وبسيارته الخاصة حتي لا يلفت الأنظار.( فؤاد علام: الإخوان وأنا). لم تكن الاتصالات السرية بين السادات والإخوان بعيدة عن علم عبدالناصر ورصد الأجهزة الأمنية, لكن السادات الرئيس يبدو أنه اختلف عن السادات النائب, فقد اتخذ مسارا جديدا في علاقته مع الإخوان, وفي تحالفاته مع الاتجاهات الدينية الجديدة التي تبناها وشجعها وسعي إلي استثمارها لتحقيق أهدافه السياسية. كانت الحركة الطلابية اليسارية صداعا في رأس السادات, ووصل الصداع إلي ذروته مع اعتصام الكعكة الحجرية الشهير في ميدان التحرير عام1972, وهو الاعتصام الذي شاركت فيه مجموعة كبيرة من الطلاب الشيوعيين والناصريين واليساريين بشكل عام, إضافة إلي مجموعة أخري من الشعراء والكتاب والمثقفين واستمر الاعتصام لمدة48 ساعة تقريبا احتلت فيه هذه المجموعات الميدان بصورة أوحت لوكالات الأنباء العالمية بأن نظام حكم السادات في خطر, الأمر الذي دفع بأجهزة الأمن إلي اقتحام الميدان وتفريق المعتصمين وإنهاء الازمة. اليسار هو الخطر الحقيقي: منذ هذااليوم شعر السادات بأن الخطر الحقيقي علي نظام حكمه يأتي من اليساريين والشيوعيين والناصريين, خاصة الطلاب منهم لأنهم يسيطرون علي الجامعات عن طريق الاتحادات الطلابية.. ومن هنا فكر السادات في إنشاء تيار ديني وسط طلاب الجامعات تكون مهمته ضرب التيار اليساري. وفي حواره مع مجلة المجلة اللندنية, يوضح الدكتور محمود جامع دور السادات في إنشاء وتقوية الجماعات الدينية: حيث دعاه السادات للقاء منفردا في منزله عقب التخلص من مجموعة15 مايو وأسرله بعدم ارتياحه لتنامي التيارين الناصري والشيوعي في الجامعات. وقال له ما نصه: يا محمود العيال الناصريين والشيوعيين هايتعبوني في الجامعة, وأردف: أنا عايز نربي شبابا مسلما ونصرف عليهم ويصبحون ركيزتنا في الجامعة. وبالفعل أوكل إلي مع محمد عثمان إسماعيل تلك المهمة وحدد له مخصصات مالية للإنفاق عليها, علي أن أتولي أنا مهمة جامعات الوجه البحري, ويتولي عثمان إسماعيل مهمة جامعات الوجه القبلي انطلاقا من أسيوط التي كان محافظا لها آنذاك وكان معروفا بعلاقاته القوية والمتميزة في اوساط شبابها.. وأعطي السادات لمحمد عثمان إسماعيل صلاحيات مطلقة لتنفيذ هدفين: الأول: إيجاد تيار إسلامي يوازي الاتجاه اليساري في المجتمع ككل. والثاني: ان يكون هذا الشباب هو أداة لضرب الطلبة الناصريين والشيوعيين داخل الجامعات. (مجلة المجلة اللندنية, حوار مع د. محمود جامع).