عبر سنوات طويلة رسمت المخيلة العربية صورة اسطورية لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي( الموساد) وهو الجهاز المسئول عن جمع المعلومات وتنفيذ مهمات سرية خارجية خاصة التخريب واغتيال الشخصيات المصنفة كعدوة لاسرائيل وخطرا أمنيا داهما عليها الصورة التي رسمها الإعلام العربي للموساد استهدفت في الواقع نزع الشرعية الاخلاقية عن اسرائيل, ولكنها عمليا دعمت الصورة الاسطورية لها ولجهاز استخباراتها وهو ما عد نجاحا هائلا للاسرائيليين في حربهم النفسية ضد العرب والتي غدت حربا بلا تكلفة وبلا جنود اسرائيليين بعد ان تطوع الكثير من المعلقين العرب في هذه الحرب ضد بلدانهم بدون ان يدروا! وعلي عكس هذه الصورة تماما تحفل الصحف ومراكز الابحاث الاسرائيلية بمئات المقالات والدراسات عن ازمة العمل الاستخباراتي في اسرائيل وبين الحين والآخر تتسبب حادثة أو عملية اخفقت فيها اجهزة الامن الاسرائيلي في فتح ملف الازمة المتفاقمة داخل المنظومة الامنية بكاملها منذ سنوات طويلة, ويبدو ان العقل العربي مازال حريصا علي انقاذ سمعة الاستخبارات الاسرائيلية بصد أي محاولة لفهم ما يجري داخل اسرائيل فهما موضوعيا تحت دعاوي شتي لامجال لمناقشتها هنا. ان احد اهم اسباب انتشار صورة الموساد الاسطورية في العالم العربي تعود بالدرجة الاولي لتقاعس الباحثين والصحفيين العرب عن متابعة ما يجري داخل اسرائيل بعقل منفتح وبمنهج يبتعد عن التهويمات والاساطير واحكام القيمة المطلقة مع ان المعلومات عن اسرائيل قد اضحت سهلة بما لايقاس بأي فترة ماضية وهو ما يؤكد ان الدوافع النفسية وصمها سوء التقدير للتحديات التي تواجه العرب حاليا خاصة من جانب اسرائيل هي السبب الرئيسي في استمرار منهج تجاهل الحقائق وما يترتب عليه من تبعات كارثية. ولننظر مثلا الي ما يدور الآن داخل اسرائيل من نقاش حول الاسباب التي دعت رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو لعدم تحديد خدمة رئيس الموساد مائير داجان لعام آخر( تم التجديد له مرتين منذ عام2007). تحدثت اغلب المقالات حول هذا الموضوع عن المفارقة الكامنة في هذا الرفض في وقت اعتبر فيه الاسرائيليون داجان احد أكفأ من قادوا الموساد عبر تاريخه حتي انهم اختاروه عام2009 كرجل للعام خاصة بعد سلسلة نجاحات الموساد في تدمير مفاعل نووي سوري عام2007 واغتيال القائد العسكري في حزب الله عماد مغنية عام2008 بالاضافة الي توجيه ضربات قوية لإيران عبر تخريب المعدات التي كانت تذهب الي المشروع النووي الايراني قبل وصولها الي مواقعها فضلا عن قتل واختطاف عدد من العلماء الذين يعملون في هذا المشروع. من وجهة نظر الكثيرين في اسرائيل فإن نجاحات داجان لايجب ان تغطي علي اخطائه خاصة في عملية اغتيال محمود المبحوح القيادي في حماس في دبي يناير الماضي وايضا التقصير الذي حدث في تقدير موقف النشطاء الذين كانوا علي متن قافلة الحرية في نهاية شهر مايو الماضي. تسببت هاتان العمليتين في توجيه الانتقادات للموساد والذي تسبب في رأي هؤلاء في توتر العلاقات بين اسرائيل وعدد من الدول الغربية سواء لأن الموساد استخدم جوازات سفر مزورة منسوبة لهذه الدول اثناء تنفيذ عملية المبحوح أو لأن اسرائيل استخدمت عنفا مفرطا وغير مبرر في مواجهة النشطاء في قافلة الحرية حيث تسبب في مقتل ثمانية اشخاص واصابة عدد اخر منهم. في عرف المتخصصين في شئون الاستخبارات ان الاخطاء التي تقع اثناء تنفيذ عمليات استخبارية هي مسئولية الجهاز الذي ينفذها حتي لو كان الواقع يقول ان رئيس الوزراء هو صاحب القرار في رفض أو تنفيذ العملية وكان اوري دان قد كتب عن ذلك المبدأ عقب الازمة التي نشبت بين الاردن واسرائيل عام1997 بعد فشل لاموساد في تصفية قائد حماس خالد مشعل في العاصمة الاردنية عمان عام1997 وطالب في حينها باستقالة رئيس الموساد داني ياتوم رغم انه كان يعلم ان ناتانياهو الذي شغل منصب رئيس الوزراء في ذ لك الوقت وحتي عام1999 كان اكثر المتحمسين لتنفيذها والمعروف ان هذه الازمة قد اتسعت بعد ان تم الكشف عن ان عملاء الموساد الذين حاولوا قتل مشعل كانوا يحملون جوازات سفر كندية مزورة حيث احتجت كندا علي ذلك في حينها ولكن فيما يبدو لم تردع عمليات الكشف المتكررة عن عملاء اسرائيليين يحملون جوازات سفر مزورة بريطانية ونرويجية والمانية وغير الموساد عن الاستمرار في هذا النهج والذي تسبب ايضا في منع التمديد لداجان حاليا. والواقع ان القائمة تطول عند التحدث عن اخفاقات الموساد واجهزة الاستخبارات الاسرائيلية الاخري مثل المخابرات العسكرية أمان وجهاز الأمن الداخلي الشاباك وعلي حقد قول الصحفي والناشط في معسكر السلام الاسرائيلي يوري افنيري ان اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية اخفقت كثيرا منذ اليوم الاول لتأسيسها في اوائل الخمسينيات. ولكن بشكل دقيق يمكن القول ان منظومة الاستخبارات الاسرائيلية قد تعرضت للاهتزاز بدءا من عام1973 عندما اختلف الموساد مع أمان فيما يتعلق بنوايا مصر وسوريا قبل نشوب حرب اكتوبر في ذلك العام ووفقا للعرف الاسرائيلي فإن جهاز امان هو الذي يتولي تقديم تقديرات الموقف فيما يقتصر دور الموساد علي جمع المعلومات وتنفيذ المهام السرية في الخارج. وبشكل عام لايبدو ان هناك ثقة كبيرة من جانب رؤساء وزراء اسرائيل في اجهزتهن الامنية فمنذ تأسيس الدولة دخل اول رئيس للوزراء في حينها ديفيد بن جوريون في صدام مع اجهزة استخباراتية التي رأت ان العرب لن يدخلوا الحرب ضد اسرائيل عند انسحاب بريطانيا من فلسطين عام1948 والاعلان عن ولادة الدولة العبرية واثبتت الاحداث صحة وجهة نظر بن جوريون وتكرر الامر نفسه مع ليني اشكوك الذي رفض تقديرات الموساد وامان عام195 والتي كانت تري ان مصر لن تحارب اسرائيل خلال السنوات الاربع التالية بسبب تورطها في حرب اليمن واقدم اشكول علي زيادة الاستعدادت العسكرية للدولة وثبت لاحقا انه كان محقا. اما اسحاق رابين فقد احتد علي رؤساء اجهزته الامنية حينما طالبوه عام1994 بالكف عن محاولة جر سوريا لمسار التسوية لاقتناعهم بأن حافظ الاسد الرئيس السوري حينها يناور فقط ولايبغي توقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل وقال رابين انا هنا المسئول ولي الحق ان ارفض او اقبل تقديرات المخابرات مشيرا الي خطأ كانوا قد ارتكبوه قبل ذلك بأسابيع عندما رأوا ان الاردن لن يوقع اتفاق سلام مع اسرائيل بينما رفض رابين هذا التقدير وسعي في مفاوضاته مع الملك حسين ليظفر بعقدها باتفاق وادي عربة. وتأتي أكبر وأخطر الاخفاقات الاسرائيلية المعروفة بقضية يهودا جيل وهو رجل الموساد الذي ظل علي مدي عشرين عاما منذ عام1976 وحتي اكتشاف امره عام1997 يدس تقارير زائفة عن معلومات يحصل عليها مصدر رفيع المستوي في سوريا وكادت هذه التقارير الوهمية تقود الي حرب بين اسرائيل وسوريا لولا كشف حقيقة كل هذه الاخفاقات وهي بعض من كل تشير الي ان اجهزة الامن الاسرائيلية مثلها مثل سائر نظيراتها في العالم لها اخفاقاتها ولها نجاحاتها ايضا ولييس هناك مبرر في عالمنا العربي للإصرار علي رسم صورة اسطورية عن هذه الاجهزة لما سبق وأوضحناه من تأثيرات نفسية مدمرة علي المواطن العربي والمصري في وقت نحتاج فيه للثقة بالنفس دون تهويل أو تهوين سواء لأنفسنا ءأو للآخرين.