ينبغي لي أن أقول, إني عاجز عن أن أتصور نظرية أشد تهافتا, من تلك النظرية التي يربط أصحابها علاقات مصر بالجزيرة العربية, بفترة الفتوحات الإسلامية لمصر وعند هذا الحد أجد العون في الكشف الأخير لآثار فرعونية قرب واحة( تيماء) السعودية, والمعلومات التي زودتنا بها المصادر الجديرة بالثقة.وتضطرنا تلك المعلومات إلي أن نعتبر أن اتصال شبه الجزيزة العربية بمصر إنما يرجع إلي عهود سحيقة, ذلك أن صلات السلالة أو الدم بين وادي النيل الأدني وشمال الجزيرة العربية, هي صلات عميقة الجذور, تعود إلي عصور ماقبل التاريخ. فالواضح هنا دون الإسهاب في الأدلة, أن إنسان شمال الجزيرة العربية, كان هو المصدر الأصيل والمنبع النقي لتلك الشعوب التي استقرت منذ أزمان بعيدة في مصر القديمة وبلاد الرافدين والشام, وربما قد حدث ذلك في الألف الثامن ق.م. ومن الجدير بالتنويه إليه, أن مثل هذه الهجرات العربية لم تنقطع فيما بعد. فاستنادا إلي جيمس هنري برستد, انه في الفترة مابين4000 3500 ق.م,وفدت إلي مصر هجرة عربية كبيرة لم تتفق الآراء حول سلوكها طريق سيناء وبرزخ السويس أو طريق الصحراء الشرقية واستخدام الوديان التي تصل البحر الأحمر بنهر النيل, وعلي أية حال فإن الأقرب للذهن, أنهم أتوا من شبه جزيرة سيناء, كما فعلت الهجرات العربية التي دخلت مصر في عصور لاحقة بدءا من عصر الأسرات ووصولا إلي عصر الفتح الإسلامي. وأبلغ من ذلك في الدلالة علي عظمة تلك العلاقات, الشواهد التاريخية عن هجرة مصرية إلي جزيرة العرب, بزعم أنها كانت سببا في نشوء اتجاه ديني هناك في نهاية الأسرة السادسة. ومثل هذه الاعتبارات قمينة بأن تقودنا إلي جهود التنقيب عن الآثار في المملكة العربية السعودية التي بدأت منذ حوالي نصف القرن من الزمن, ومن أهم ما أسفرت عنه, أن الصحراء العربية القاحلة, لم تكن قاحلة أو مهجورة في زمنها الغابر, ذلك أن المواقع الأثرية المنتشرة في مناطق المملكة, تحتوي علي العديد من التلال الأثرية التي تخفي في بواطنها نماذج مميزة من المعثورات القيمة, وعلي مدن كانت ذات أسوار حصينة وأبراج وذات جدرانيات مصورة بالغة الروعة, والتي من خلالها يمكن تسليط الضوء علي نوع الحضارة التي سادت في موقع ما, وتحديد الفترة الزمنية التقريبية التي يعود اليها, وموقع واحة تيماء نموذج للمدن الصغيرة بالقرب من الواحات أو الوديان التي تغذيها الينابيع, نمت كالمراكز الدولية, غنية بالبضائع والثقافة والحضارة وقد جاء ذكرها أيام الملك الأشوري( تجلات بيلاسر الثالث)744 727ق.م.وأيضا في أيام( نابو أبال أوسور) مؤسس السلالة البابلية العاشرة625 605 ق.م,وقد رحل إليها الملك( نابونيد) آخر ملوك الإمبراطورية البابلية الحديثة, حيث اتخذها عاصمة له, وبني لنفسه قصرا فيها, مازال يرقد هناك في مكان تحت الرمال ينتظر استكشافه, وكانت أسوار مدينة( تيماء) تبلغ سبعة أميال حولها, أما بئرها العميقة المبطنة بالحجارة, فمازالت تعج بالماء, رغم أن عمرها ثلاثة آلاف عام. أما حجر تيماء المنقوش بالآرامية, الذي يسجل قصة إنشاء طائفة دينية جديدة في تيماء القديمة, فقد وجده مستكشف فرنسي منذ أكثر من مائة عام, وهو موجود في متحف( اللوفر) بفرنسا, ولكن الفريق السعودي وجد حجرا آخر مدفونا في معبد الطائفة المذكورة والذي يشتمل علي رموز وكتابات من بابل ومصر والشام, مما يعطي انطباعا بأن تيماء كانت عقدة اتصال تربط جزيرة العرب ببلاد الشام ومصر فمنها تتجه القوافل شمالا إلي دمشق وأخري تتجه إلي سيناء بمصر, وثالثة تتجه إلي العراق, حيث كان أهل اليمن ينقلون فيها تجاراتهم وتجارات إفريقيا والهند وبقية آسيا إلي مصر والعراق والشام. وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا السر الكامن وراء الآثار التي عثر عليها في أراضي المملكة السعودية للملك( رمسيس الثالث) بالقرب من تيماء, وهي خراطيش ملكية ثلاث, تتضمن الأولي عبارة: ملك مصر العليا والسفلي ورب الأرضين, وقوة وعدالة رع محبوب آمون والثانية: ابن الشمس رع ورب التيجان, والثالثة: محبوب حاكم الأرض, وفي هذا الصدد يذكر الدكتور زاهي حواس ان ذلك الأمر عادي, ذلك ان مصر في عصر الرعامسة( رمسيس الثاني ورمسيس الثالث) ارسلت بعثاتها إلي دول سوريا وفلسطين والعراق, وقد سبق ان تم اكتشاف آثار مصرية باليمن, ووفقا لهذا النسق من الأفكار, رأي وليم أولبرايت وغيره, احتمال استخدام الإبل في عمليات النقل والتنقل منذ القرن الثاني عشر ق. م. اونحوه قد زاد من إمكانات اقتصاد عرب شبه الجزيرة العربية, ومن امكانات اتصالاتهم بالدول المحيطة بهم, وأن هذه الامكانات وتلك, قد هيأتهم لتكوين دول ودويلات غنية مستقرة, تأخذ بأسباب الحضارة الراقية. وتؤكد الوثائق التاريخية أن سياسة الفراعنة في عهد الأسرة الثامنة عشرة كانت تسير علي أساس تأمين البلاد من محاولة غزو القبائل العربية, نظرا لأن الزحف السلمي البطيء لم ينقطع طوال فترات الحكم المصري لهذه البلاد, وكان تحتمس الأول قد أعلن ان نهر الفرات هو حدود مصر الشرقية, وبذلك امتدت حدود مصر شرقا لتشمل كل القطاع العربي في تلك البقعة من العالم. وجريا علي هذا النسق من الأفكار يذكر حواس أنه لا يستبعد ان تكون هناك سيطرة عسكرية او علاقات عن طريق القوافل التجارية, تعود لهذه الحقبة من الزمن, وهذا النسق يشبه عن قرب نتائج البحث الميداني الذي اجراه علماء في السعودية علي هذه الآثار المكتشفة, وتوصلوا من خلاله إلي وجود طريق بري تجاري, يربط وادي النيل بتيماء, محدد بتواقيع ملكية( خراطيش) للملك رمسيس الثالث, وضعت علي مناهل في شبه جزيرة سيناء والجزيرة العربية, وأكدوا في مؤتمر صحفي ان اكتشاف هذا الطريق, سيشكل نقطة تحول في دراسة جذور العلاقات الحضارية بين مصر والجزيرة العربية. ونستطيع ان نستمر في ضرب الأمثلة الدالة علي تلك الروابط, ومن ذلك ان المؤرخ اليوناني هيرودوت قد زار مصر حوالي448 445 ق. م, ويظهر من كلامه ان الأقسام الشرقية من مصر, ولاسيما المناطق المتصلة بطور سيناء كانت مأهولة بقبائل عربية, وطبيعي ان هذه القبائل قد استقرت هناك قبل ذلك العصر بزمن طويل. وعلي الجانب الآخر نجد المصريين قبل الإسلام, قد عاشوا في الحجاز, بل في مدينتيه الكبيرتين( مكة ويثرب) نفسها, فقد ورد في كثير من المصادر التاريخية, ان الكعبة طغا عليها قبل ظهور الإسلام سيل عظيم صدع جدرانها, فأعادت قريش بناءها مستعينة في ذلك بنجار قبطي, كان يسكن في مكة يقول شراح السيرة أن اسمه باقوم. ومن خلال هذه المعطيات وبها, نستطيع القول علي وجه اليقين, انه قد قامت بين المصريين وبين عرب شبه الجزيرة العربية صلات قوية هامة متنوعة, مازالت منذ قامت مستمرة لا تتوقف, متصلة لا تنقطع, مثلها مثل سلسلة طويلة, تؤدي كل حلقة منها إلي التي تليها في اطراد دائب وتتابع مستمر.