من منا لا يتذكر مشهد الرائع القدير جميل راتب وهو يسير في قريته التي رشح فيها نفسه لعضوية مجلس الشعب بالاضافة لكونه وزيرا في فيلم طيور الظلام وإذ بمدير مكتبه الفنان عادل إمام يسلمه طفلا صغيرا شبه عار وتبدو عليه علامات القذارة واضحة, ويطلب منه بإصرار أن يقبله في فمه؟! ومن منا لم يضحك وهو يتابع القدير لطفي لبيب رجل الأعمال الذي قرر أن يرشح نفسه للانتخابات في دائرته, فتوجه إليها مرتديا الجلباب ومتخليا عن البدلة حتي يقنع الجميع انه خير من يمثلهم؟ لكن صهره الفنان كريم عبد العزيز أفسد الجولة الانتخابية حين صارح الحضور برأي حماه الحقيقي في أبناء دائرته. وها هما بخيت وعديلة أو الجردل والكنكة حيث رشح الفنان عادل إمام والفنانة شيرين نفسيهما في الانتخابات من أجل أهداف محددة, وهي الحصول علي شقة وسيارة والخروج من دائرة الفقر المفرغة التي يعيشان فيها. مشاهد درامية لا حصر لها, سواء في السينما أو التليفزيون أو حتي المسرح قدمت مواقف درامية كان يفترض أن تكون هزلية أو تعتمد علي المبالغة في أجواء الانتخابات, لكن ثبت بالحجة والبرهان أن الواقع أحيانا يتحول ليكون هو المبالغة غير المنطقية والدراما هي التخفيف من حدة الواقع وقسوته. نعيش هذه الأيام أجواء فريدة من نوعها. وأسباب التفرد كثيرة, فهناك حالة من الاستنفار الوطني( من الحزب الوطني الديمقراطي) حتي تخرج العملية الانتخابية علي أكمل وجه ممكن. صحيح أن الكمال صفة من صفات الله سبحانه وتعالي إلا انه حين يستخدم علي الأرض فإنه يتسم بالنسبية الشديدة. فما هو أقرب إلي الكمال بالنسبة لأعضاء الحزب الوطني الديمقراطي هو أقرب إلي الاحتكار بالنسبة لأعضاء أحزاب وتيارات أخري. وهذه هي سنة السياسة. ودون الخوض في تفاصيل المرشحين, وأعدادهم, وظاهرة منافسة الوطني للوطني, والمحاولات العتيدة لسد كل الأبواب والنوافذ والثغرات التي قد يتسرب منها أو يتغلغل عبرها أو ينفذ خلالها أي مرشح كده ولا كده من تيار كده ولا كده, أود أن ألفت الانتباه إلي سمات أخري لتفرد المشهد الانتخابي الحالي. هناك حالة من الخوف تسود بين كثيرين حول معايير الأمن والسلامة في يوم الانتخابات. وقد سمعت عبارات متشابهة من قبل كثيرين يعكس جميعها نوعا من عدم الاطمئنان علي السلامة الشخصية في هذا اليوم بالنسبة لمن ينوون الإدلاء بأصواتهم. وسبب هذا الشك لا يعود إلي انتماء سياسي أو ديني, لكنه يعود إلي شعور عميق بأن هذه الانتخابات أقرب ما تكون إلي حرب تكسير عظام, أو مباراة قاتل أو مقتول بين البعض. المهنة بلطجي فمشاهدة البلطجية المحترفين الذين رأيناهم يمارسون عملهم بكل همة ونشاط في دورات انتخابية سابقة حاضرة في الأذهان. والمؤكد أن أحداث جامعة عين شمس يوم الخميس الماضي أسهمت هي الأخري في استحضار الصورة في أذهان من نسوا أو تناسوا بلطجة الانتخابات الماضية. نماذج بشرية تكاد تكون مستنسخة: شباب في أوائل العشرينيات خرج إلي النور في زمن عز فيه تطبيق القانون, وغلبت فيه سيطرة العضلات علي القيم والأخلاق, تبدو علي هيئتهم رغم البنطلونات الجينز المدلدلة الموافقة للموضة والبوكسرات الظاهرة والتي شيرتات ذات الألوان الفاقعة والرسوم والعبارات الأجنبية التي لا تعني شيئا لمرتديها أنهم ينتمون إلي قاعدة الهرم الطبقي المصري. هذه القاعدة التي كانت يوما ما هي ناس مصر الطيبون الغلابة, الذين يحاولون قدر المستطاع أن يخرجوا من هوامش القصة ويتسللوا إلي إحدي صفحاتها, حتي وإن كانت من الصفحات غير المقروءة. كانوا غارقين في الفقر, لكنهم كانوا قد حصنوا أنفسهم ضد الكفر بالعدل والاعتراض علي مرارة الواقع بقدر هائل من القناعة والرضا. حراك في القاعدة لكن حراكا عنيفا يحدث في هذه القاعدة منذ سنوات, وهو حراك أشبه بالانفجار لكن بالتصوير البطيء. فالقناعة مهما كانت كبيرة, لكن لها حدا أقصي لا يمكن تجاوزه. والرضا بالواقع والتسليم بما هو مكتوب لو لم يصحبه ولو قدر ضئيل جدا من التحسن, فهما الي زوال. وإذا كانت هذه هي سمات الحراك الحادث عند قاعدة الهرم, يمكننا تفسير الكثير مما يحدث فيها من عنف وبلطجة وانعدام للضمير وغياب للأخلاق وغيبوبة للقيم. وإذا كان هذا هو الحال, فما بالك بالأجيال التالية التي فتحت عيونها بعد انقشاع الرضا وتبخر القناعة تماما, وذلك بعد ما طفح الكيل بجيل الأجداد والآباء؟! رأيت في وجوه ومظهر الشباب البلطجية أبطال أحداث جامعة عين شمس الاسبوع الماضي نتاجا طبيعيا للحراك الحادث عند قاعدة الهرم الآخذة في الاتساع. وسواء كانوا مأجورين أم قاموا ببلطجتهم بوازع شخصي, فإنهم قد أعادوا إلي الأذهان مشاهد البلطجة في الانتخابات الماضية. وهذا يقودنا إلي سمة أخري من سمات المشهد الانتخابي, وهي أعداد الناخبين والعدد بالطبع وثيق الصلة بالوعي السياسي لدي الناس, وبمدي ثقتهم في قيمة أصواتهم. وبحسب الإحصاءات الرسمية, فإن نسبة المصريين الذين توجهوا فعليا إلي صناديق الانتخاب في الانتخابات البرلمانية الاخيرة لم تزد علي20 في المائة ممن لهم حق الانتخاب. الأصوات تعني الثقة ماذا تعني هذه الأرقام إذن؟ وهل يتوقع أن نشهد طفرة في الانتخابات المقبلة؟ تفسيري المتواضع هو أن تدني النسبة هو انعكاس واضح وصريح ولا مجال للشك في مصداقيته لفقدان الثقة شبه التام فيما قد تسفر عنه الانتخابات, أي انتخابات. أري ان كثيرين يرون في عملية الترشح في حد ذاتها مكسبا شخصيا بحتا للمرشح. ثقافة الرغبة في خدمة الآخرين من خلال العمل العام أو حتي الخاص, والتعبير عنهم, ونقل صوتهم إلي الجهات المختصة, والقيام بدور همزة الوصل الأمينة بين الحاكم والمحكوم تعاني خللا واضحا. ودائما ما تحوم علامات استفهام, وأحيانا تعجب حول مبرر حجم الجهد والمال اللذين يبذلهما أي شخص في سبيل الوصول إلي مقعد سواء في مجلس إدارة ناد, أو نقابة أو جمعية, أو برلمان, أو حتي اتحاد ملاك عمارة سكنية. وربما أيضا أن الناس بحكم التجربة وجدت أن حكاية الترشح والتصويت والانتخابات هذه لا تعنيهم من قريب أو بعيد. صحيح أن البعض يستفيد من خلال الوصول إلي النائب المحترم الذي يتعذر دائما الوصول إليه بعد نجاحه والحصول علي وظيفة في وزارة للإبن, أو أمر علاج علي نفقة الدولة للزوجة, أو كارت توصية لنقل الإبنة من مدرسة لأخري, أو الحصول علي تأشيرة حج أو ما شابه, لكن يظل أولئك البعض قلة قليلة جدا مقارنة بالجموع الغفيرة, سواء تلك التي حاولت الوصول إلي النائب المحترم فلم تفلح, أو تلك التي لم تفكر أصلا في الوصول إليه لغرقها في اليأس والإحباط. معني نائب الأهم من ذلك هو الغموض المرتبط بمفهوم النائب البرلماني لدي أغلبنا. فمن هو؟ وما مواصفاته؟ وما مهامه؟ وهل هو يخضع للحساب أم انه منزه عنه؟ وهل ينبغي التعامل معه من منطلق انه السيد وأن الناخب هو العبد انطلاقا من المثل الشعبي الذي تفوقنا علي أنفسنا في تطبيقه وهو حسنة وأنا سيدك؟! أم أن أصول اللعبة تحتم غير ذلك, علي أساس أن النائب لم يكن ليحمل هذا اللقب, ولما كان يتمتع بكل تلك المميزات لولا صوت الناخب الذي أعطاه له بناء علي عقد مبرم بينهما, وهو العقد الذي قد يكون موثقا بورقة بخمسين جنيها مقسومة نصفين أحدهما يتقاضاه الناخب قبل الادلاء بصوته, والثاني بعده؟ وقد يكون كذلك موثقا بعقد اجتماعي وسياسي بينه وبين المواطن, كذلك الذي يوثق منذ مئات السنين في الدول الديمقراطية؟ معروف أن النائب البرلماني في مصر هو ذلك الشخص المهم الذي تحيطه هالة ضخمة من السلطة والسطوة والجاه. وجانب كبير من أهميته يرتكز علي كونه نائبا بغض النظر عن أدائه البرلماني. ولأننا في مصر نعشق تصنيف البشر بناء علي فئتين أساسيتين لا ثالث لهما وهما: ناس مهمون وناس غير مهمين, فإن النائب شخص مهم لأنه يلتقي كبار رجال الدولة, ويجلس جنبا إلي جنب مع الوزراء تحت قبة واحدة, بل وقد يكون النائب نفسه هو الوزير في سابقة لا مثيل لها في برلمانات العالم. وهو كذلك ذو كلمة مسموعة, ويتمتع بالحصانة, ويكون الكارت الذي يعطيه لأبناء دائرته المحظوظين ليكون واسطتهم لنيل فرصة عمل أو شقة من شقق الزلزال واسع التأثير. انتماء لا يهم وقناعتي الشخصية هي أن المواطن العادي لا يعنيه كثيرا لأي من الأحزاب أو التيارات ينتمي هذا النائب أو ذاك. كل ما يعنيه هو: هل سيتمكن النائب من أن يخدمه في حل واحدة أو اثنتين من المشكلات المستعصية التي يعيش فيها أم لا؟ سمة أخري من سمات الانتخابات المقبلة وهي الدور الرئيسي الذي يلعبه الإعلام فيها, وتحديدا القنوات الفضائية الخاصة. والدور المقصود هنا هو دور تكوين وحشد الرأي العام, وهو دور تلعبه هذه القنوات منذ سنوات غير قليلة. فقد أثبتت هذه القنوات أنها أصبحت لاعبا أساسيا في العملية السياسية, وطرفا ينبغي استقطابه حينا واسترضاؤه حينا واظهار العين الحمراء له أحيانا. فالكثير من هذه القنوات هو الذي جعل من المواطن المصري متابعا لمحتوي تليفزيوني آخر غير المسلسلات والأفلام ومباريات كرة القدم وبرامج الطبيخ والأبراج. صار المواطن يشاهد مشكلاته الحياتية اليومية الحقيقية مذاعة بالصوت والصورة علي الشاشة. ومن ثم, وجد المسئول نفسه مضطرا لأن يرد علي ما ورد لوزارته أو مؤسسته من شكوي أو مظلمة بعد ما كان يتصرف وكأنه لم يسمع شيئا. كما أن كثرة التركيز علي المشكلات اليومية من تلوث مياه الشرب, وانقطاع التيار الكهربائي, والأسعار الجنونية, واحتجاجات الحد الأدني للأجور, وغيرها جعلت المواطن يشعر أكثر انه بات محاصرا بالبلاء من كل صوب. كما أضفت علي هذه القنوات كذلك هالة من الأهمية وأهلتها لأن يأخذها كبار المسئولين مأخذ الجد في إطار التخطيط لإدارة الأجواء الانتخابية المقبلة, وهذا في حد ذاته مصدر قوة وضعف. قوة, لأنه اعتراف رسمي بمكانتها وأهميتها, وضعف لأنها ستكون تحت عين الرقباء ليل نهار, إما للإبلاغ عن خروقاتها, أو لتحذيرها من الإفراط في الحديث عن شخص ما, أو ربما للطلب منها صراحة عدم الخوض في مواضيع بعينها. أجواء الانتخابات دائما تكون مسلية. فهي تكشف الستار عن الكثير مما يمعن آخرون في إخفائه أو تزييفه أو إنكاره. كما أنها ترفع شعار لا مجال للهزار, فالأقنعة تتساقط, وردود الفعل تصبح أكثر واقعية, والمعركة تقترب من نقطة الحسم.