انتهت السيدة نتاليا سوليجنينيتسين أرملة الكاتب الروسي الراحل ألكسندر سولجنيتسين من ملخص رواية( أرخبيل الجولاج) ليبدأ تلاميذ المدارس الروسية دراسته ضمن برامجهم الدراسية, لم تكن مصادفة ان تهتم وسائل الإعلام والاوساط الثقافية والأدبية الروسية بمبادرة رئيس الوزراء الروسي الحالي( رئيس روسيا السابق في الفترة من عام2000 إلي عام2008) فلاديمير بوتين التي طرحها علي أرملة الكاتب الراحل التي أبدت امتعاضها في البداية, ثم استجابت لأسباب غير معروفة او مفهومة. قام بتوقيع قرار تدريس هذا الكتاب في المدارس وزير التعليم الروسي اندريه فورسينكو في9 سبتمبر2009 بعد لقاء بوتين مع نتاليا سوليجنيتسينا ورأي بوتين انه بدون دراسة هذا الكتاب لن يكون هناك تصور كامل عن روسيا, بينما رأت ارملة الكاتب انها بذلت كل جهودها لكي يكون الكتاب خفيفا وملائما لتلاميذ المدارس, فتم تلخيص الرواية في مجلد واحد بدلا من3 مجلدات كاملة. اعتبر الكثير من الشخصيات الثقافية والأدبية أن وضع رواية صاحب نوبل عام1970 في البرامج الدراسية يأتي ضمن تقاليد التعليم الروسي التي تحرص علي أن ينهي التلاميذ مدارسهم ولديهم تصور واسع عن الأدب الروسي الكلاسيكي والمعاصر, وذلك بتدريس اعمال كتاب تلك المراحل, ذلك إلي جانب تدريس الحضارات القديمة في مصر والعراق, والتركيز علي الأولي تحديدا, غير أن تلك الشخصيات ابدت مخاوفها اثناء وضع لوحة كاملة لما يجري, فرئيس الوزراء, الرئيس الروسي السابق, هو رجل مخابرات سوفيتي. وكان معاصرا لكل ما حدث للكاتب ألكسندر سولجنيتسين اما الكاتب نفسه وتاريخه فهما معروفان جيدا للمتخصصين والمتابعين علي حد سواء, فقد ولد سولجنيتسين في11 ديسمبر عام1918 في مدينة كيسلوفودسك, توفي والده ضابط المدفعية بعد عودته من الجبهة في الحرب الألمانية, في حادث الصيد قبل مولد الكاتب بستة أشهر, في عام1925 انتقلت الأم مع طفلها للإقامة في مدينة روستوف حيث أنهي الابن المدرسة الثانوية, والتحق بالجامعة ليتخرج من كلية الفيزياء والرياضيات. التحق ألكسندر بالجيش وتولي منذ ديسمبر عام1942 قيادة بطارية الاستطلاع الصوتي, كما حارب في مختلف الجبهات في الحرب العالمية الثانية او الحرب الوطنية العظمي كما يسميها الروس, وفي أغسطس عام1943 منح وسام الحرب الوطنية من الطبقة الثانية, وواصل المشاركة في الحرب حتي فبراير عام1945 حيث اعتقل حين كان برتبة نقيب في الجيش السوفيتي بسبب تبادله رسائل مع أحد اصدقاء الطفولة والتي تضمنت نقدا صريحا لستالين, وحكم عليه بالسجن في معسكر الاعتقال لمدة8 سنوات, أمضي جزءا منها في معهد للبحوث العلمية حيث كان السجناء يصممون ويصنعون الوسائل السرية للاتصال الهاتفي, وقد استخدم الكاتب تجربته في هذه الفترة اثناءكتابة روايته في الدائرة الأولي في عام1956 عاد سولجنيتسين من المنفي وأقام في مقاطعة فلاديمير حيث مارس التدريس طوال عامين في مدرسة قروية, ثم مارس التعليم عدة سنوات في مقاطعة ريازان ومارس هناك الكتابة بنشاط. احدثت روايته القصيرة يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش انقلابا حقيقيا في الحياة السياسية والاجتماعية, والأدبية ونشرت بفضل جهود الكاتب ألكسندر تفاردوفسكي الذي رأس آنذاك تحرير مجلة نوفي مير في نوفمبر عام1962, وفي السنوات التالية نشرت المجلة نفسها4 من قصصه وبقية مؤلفاته ومنها روايته جناح السرطان التي منعتها السلطات السوفيتية, لكن جري نشرها في طبعات سرية, وحظيت بشهرة واسعة ملحمته الشهيرة العجلة الحمراء حول الثورة الروسية. في عام1969 فصل الكاتب من اتحاد الكتاب السوفيت, وفي عام1970 منح جائزة نوبل في الأدب, وبعد4 سنوات أبعد سولجنيتسين من الاتحاد السوفيتي إلي الغرب حيث أنجز كتابة أرخبيل الجولاج وبعد مرور عام أعيدت إليه الجنسية السوفيتية, ثم نشر كتابه الشهير كيف نعيد بناء روسيا في27 مليون نسخة في الاتحاد السوفيتي فقط. في مايو عام1994 عاد الكاتب من المهجر في الولاياتالمتحدة وسافر جوا من الاسكا إلي فلاديفستوك في الشرق الأقصي الروسي ثم توجه بالقطار إلي موسكو عبر جميع أقاليم البلاد تقريبا. كل كاتب يدفع ثمن اختياراته وانحيازاته وافكاره, وإذا كان الكاتب لا يعرف ذلك فهو مقصر في حق نفسه وفي حق قرائه وفي حق اعماله, كان سولجنيتسين يدرك ذلك بقوة منحته صلابة, وإن اختلف معه الكثيرون في الطرح والرؤية, لكن المثير هنا هو تلك الرؤية الأمنية للكاتب ولأعماله وتاريخه, فالسلطة السوفيتية بأجهزتها الأمنية التي شردته بالمعني الحرفي للكلمة سمحت بمؤلفات اخري أكثر حدة في نقديتها, مثل الدون الهادئ لميخائيل شولوخوف والتي حصل علي جائزة نوبل ايضا عنها, والأجهزة نفسها لم تستخدم نفس الوسائل الذي استخدمتها الأجهزة الأمنية الأمريكية مع رواية(1984) للكاتب الأمريكي جورج اورويل. المدهش ان فكرة تدريس( ارخبيل الجولاج) أكثر مؤلفات سولجنيتسين اثارة للجدل خرجت من رجل استخبارات سابق تولي رئاسة روسيا لثماني سنوات, وأصبح رئيسا لوزرائها فيما بعد. فهل هناك أشياء لا نعرفها إلي الآن ؟ هل الأجهزة الأمنية في الاتحاد السوفيتي السابق او في روسيا حاليا علي قدر من الفهم والإدراك يمنحها طرح رؤيتها او حتي فرضها علي الأدب والإبداع؟ ما هي قيمة المنع وقدرته علي الحفاظ علي أمن الوطن وأمن المواطن؟ وما هي امكانية التشريد والفصل والإبعاد علي إخضاع الكاتب والمبدع وإذلاله والتنكيل به؟ قبل قيام الثورة البلشفية تدخل زعيم الثورة فلاديمير لينين في رواية( الأم) للكاتب الروسي السوفيتي مكسيم جوركي, او بصيغة أخف, نصحه بتغيير نهايتها, بينما قامت المخابرات الأمريكية بإجراء تعديلات علي رواية(1984) لأورويل, هذان مثالان فقط لأمور كثيرة حدثت وتحدث وستحدث, وإذا كانت رواية اورويل فسرت بأنها موجهة ضد الشمولية والديكتاتورية في الاتحاد السوفيتي آنذاك, فهي تنسحب الآن علي الوضع الدولي للولايات المتحدةالامريكية نفسها علي الرغم من الجهود الخارقة للمخابرات الامريكية في توجيه الرواية ضد الاتحاد السوفيتي السابق, أما رواية( الأم) لجوركي فهي ملاتزال تحافظ علي ألقها رغم التعديلات التي أجريت بمبادرة من قائد الثورة. السيدة نتاليا سولجنيتسينا بذلت جهودها, بعد الرفض والامتعاض لتبسيط الكتاب او الرواية لكي يطلع تلاميذ المدارس علي حقبة من تاريخ بلادهم, اما سبب الرفض والامتعاض فهو يعود إلي فقدان ارملة الكاتب الثقة لا في العلاقة بين جهاز الأمن والكاتب فقط, بل في جوهر وكنه هذه العلاقة ايضا, فالجهاز نفسه في مرحلة معينة هو الذي قام بالمنع والنفي والتشريد, والآن يعود مهللا ومرحبا بما كان يمنعه, والسؤال الذي يتردد: لماذا وهل أصبح الكاتب مهما للوطن وللأمة بعد أن كان عدوا لهما, هل استيقظت الأجهزة الأمنية فجأة من نوم كان مفروضا عليها, هل يتم ذلك مع سولجنيتسين تحديدا, أم مع كتاب آخرين ايضا, أو بالأحري, هل يجري منع ودفن وتشريد آخرين في نفس الوقت الذي يتم فيه احياء اعمال سولجنيتسين؟ أما لماذا وافقت ارملة الكاتب, فلا يمكن معرفة السبب! البعض في الأوساط الأدبية والثقافية رأي انه كلما نال الكاتب الحظوة, وبالذات لدي السلطة واجهزتها, قل نصيبه من الحظوة الحقيقية بعد رحيله, وفسر هذا البعض ذلك بأن قلة قليلة فقط قادرة علي رفض العسل ومقاومة طعمه, واعتبر أن العسل مشروب خادع, قد يكون حلوا تعقبه مرارة, وقد يكون مرا زعافا, اما العسل الحقيقي, حتي وإن لم يستطع الكاتب تذوقة لانه اصبح في عداد الراحلين, يصبح حلوا في أفواه الأطفال والصغار وتلاميذ المدارس الذين قد يستفيدون من الدرس اكثر من الكتاب انفسهم. الدكتور: أشرف الصباغ كاتب وإعلامي مصري مقيم في روسيا