لأكثر من نصف قرن ولا يزال الشرق الأوسط مسرحا للعديد من الأحداث السياسية المهمة والمؤثرة في العالم كله. بداية من الصراع العربي الاسرائيلي الممتد منذ وعد بلفور في1917 ثم مرورا بالتقسيم عام1947 إلي الحروب المتتالية التي مرت علي العالم العربي. ربما تكون تلك الأحداث التاريخية الهامة والمؤثرة في العالم لها جاذبيتها علي الشاشة الكبيرة. إنها الأكثر عمقا بطبيعتها السياسية والاجتماعية, غير أن المأزق التقليدي عند تناول أي حدث تاريخي أن يغرق القاص سواء كان السيناريست أو المخرج في تناول العناصر السياسية التاريخية لهذا الحدث وإغفال العنصر الإنساني, فيخرج العمل جافا خاليا من الحكي ليتحول إلي حالة من سرد بارد لوقائع تاريخية. الاقتراب من الدراما الانسانية قد يدفع العديد من صناع الأفلام لأن يستوحوا أفلامهم من قصص واقعية هربا من هذا التورط في سياسة قد تقضي علي الفيلم كعمل فني. فيلم ميرال للمخرج الأمريكي جوليان شنابل هو فيلم مأخوذ عن كتاب للاذاعية المتميزة والشهيرة رولا جبربيل تحكي فيه قصة حياتها. أما شنابل فهو واحد من أهم المخرجين المتميزين في لغتهم السينمائية لقد حصل علي جائزة أحسن إخراج في مهرجان كان عام2007 عن فيلمه الجرس الغارق والفراشة وهو فيلم مأخوذ أيضا عن كتاب لجان دومنيك بوبي. ويبدو أن المخرج الأمريكي المتميز يهتم بالقصص التي تتجاوز موطنه إذ إن فيلمه السابق كان عن الأيام الأخيرة في حياة واحد من مصممي الأزياء الفرنسيين الذي أصيب بشلل كامل نتيجة جلطة دماغية. وفي فيلم ميرال يعترف شنابل عند عرض الفيلم في مهرجان أبوظبي في الشهر الماضي أنه اراد أن ينقل ماكتبته رولا جبريل حرفيا دون أدني تدخل منه, ولا أتصور إن كان هذا مدحا في الكتاب أم هربا يقوم به المخرج من المساءلة حول التفاصيل التاريخية داخل الفيلم أو داخل المجتمع الفلسطيني ذاته. الفيلم يبدأ من خلال تقنية ازدواج المسار في السيناريو بين سيدة تدعي هند الحسيني( هيام عباس) ولا يوضح السيناريو ماإذا كانت هند إبنة لأحد أهم العائلات المقدسية, عائلة الحسيني, ولا يؤكد الفيلم علي علاقة هند الحسيني بالعائلة الفلسطينية المناضلة التي منها عبد القادر الحسيني وهو القائد العسكري الفلسطيني الذي كان يناضل من أجل تحرير فلسطين منذ الثلاثينيت وحتي حرب1948 وأيضا الراحل فيصل الحسيني الذي كان مسئولا عن ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية. أو حتي علاقة هند بالحاج أمين الحسيني مفتي القدس في منتصف القرن العشرين. فقط هناك تنويه علي أن عائلة هند الحسيني كانت عائلة كبيرة متميزة لها ارتباط بكبار رجال السياسة وبخاصة الأجانب قبل عام1948, فالمشهد الافتتاحي في الفيلم في بيت واحدة من أهم السيدات الأجنبيات في القدس( تقوم بالدور كضيفة شرف فينسيا ريدجريف) والمناسبة كان احتفال بالكريسماس تحضره هند الحسيني الشابة ومعها شجرة كريسماس. هند الحسيني لديها العديد من العلاقات مع الجاليات الأجنبية في القدس الأمر الذي يسمح لها بأن تنشيء ملجأ للأيتام من الأطفال ضحايا حرب1948 ومنهم ضحايا مذبحة دير ياسين. لاتخلو المشاهد التي تتناول الفترة التاريخية للتقسيم والحرب من بعض المشاهد التسجيلية لإعلان بن جوريون الشهير للدولة اليهودية. الفيلم ينتقل بعد ذلك من خلال الخط الدرامي الآخر ليرصد حالة فتاة فلسطينية سمراءتدعي نادية( ياسمين المصري) يغتصبها زوج أمها وتقرر الهرب من بيتها. تهرب نادية لتعمل راقصة شرقية في أحد الملاهي الليلية وفي أحد المرات التي تستقل فيها أتوبيسا عاما تلاقي الفتاة درجة من العنصرية من إحدي السيدات اليهوديات غير أن نادية لا تتردد في أن تضربها ضربة قوية فتصيبها بالنزيف في الأنف تنتقل إثر تلك الحادثة لتقضي فترة في السجن وهناك تقابل نادية فتاة فلسطينية أخري كانت تعمل ممرضة وكانت تشارك في أعمال مقاومة وسجنت لأنها وضعت قنبلة داخل سينما. غير أن السيناريو سعي في تلك الفترة من التمهيد أن يتناول كل حدث بتفصيلاته بما فيها القصص الجانبية, خاصة تلك المحكية بطريقة الفلاش باك. ومن المؤكد أن تلك التقنية أفقدت الدراما الرئيسية في الفيلم تماسكها. كان الخط الأول في الفيلم وهو الخاص بالملجأ ومدرسة البنات اللذين أنشأتهما هند الحسيني يتناول رجلا يعمل كخادم للمسجد الأقصي وهو جمال( الكسندر صديق) وهو رجل يساعد السيدة هند بشكل دائم. التقاء الخطين هو أن الفتاة صديقة نادية وجارتها في السجن هي شقيقة جمال. وهذه المصادفة لاشك أنها من أضعف المناطق في بناء السيناريو ككل, ولايبدو أن هذه الصدفة كانت ستصبح بهذا الشكل المصطنع إذا ما كان البناء الدرامي في بداياته لايسير بين خطين مزدوجين في أزمنة مختلفة. جمال يتزوج من نادية غير أن تلك الفتاة شبه الانسانة والمحطمة لاتستطيع أن تكون زوجة صالحة حتي من ليلتها الأولي. وما تنجب ميرال حتي تتفاقم حالتها النفسية لتدفعها للانتحار. جمال لايستطيع سوي أن يترك ميرال في أيدي هند الحسيني لتتربي في المدرسة وتتعلم تعليما جيدا. الفيلم ينتقل ليرصد تحول الفتاة بعد أن تتعرف علي عالم فلسطينيي الضفة وغزة وبالأخص المخيمات لأن تصبح عضوة في إحدي الجبهات- من المرجح أنها الجبهة الشعبية- داخل منظمة التحرير. وسرعان مايرصد العديد من التفاصيل السياسية والتاريخية التي حدثت في الربع الأخير من القرن العشرين منها الانتفاضة الفلسطينية واتفاقية أوسلو. غير أن الفيلم يرصد تلك الاتفاقية من وجهة نظر أبطاله علي أساس أنها الحلم الذي سوف يملأ فلسطين عدلا في حين أن الاتفاقية لم تلق ترحيبا كبيرا في بدايتها من العديد من المفكرين الفلسطينيين والغربيين وعلي رأسهم ادوارد سعيد ونعوم تشومسكي. الفيلم لايخلو من العديد من السلبيات علي المستوي الفني والبنيوي داخل السيناريو وأيضا علي المستوي السياسي والتاريخي ومن تلك الأشياء السلبية في الفيلم نجد عملية رصد التفاصيل السياسية والتاريخية المصاحبة للأحداث, إذ إننا لانري فيها رؤية جديدة من مخرج عالمي متميز. فقط يشعر الجمهور بأنه يري فيلما محليا من الأفلام المباشرة التي تناقش القضية الفلسطينية التي يقوم باخراجها مخرجون فلسطينيون مثل رشيد مشهراوي أو ميشيل خليفي. أو تلك المشاهد التاريخية الأقرب لبعض الأفلام التوثيقية التي تقدمها القنوات الفضائية. بمعني أن شنابل في تلك المقاطع لم يقدم جديدا, إنما كانت مشاهده تلك تكرارا متواضعا. الأكثر سوءا في تلك المقاطع السياسية هو المشهد الذي رصد عملية تفجير سيارة شاهدتها ميرال وشاركت بدون علمها مع رفيقها هاني عضو المنظمة وكانت بالقرب من أحدي المستوطنات أثناء الانتفاضة الأولي في نهاية الثمانينات, لقد أراد صناع السينما أن يقولوا رأيا مباشرا حول ان المستوطنات هي حالة من الاحتلال التي تنهي كل محاولات السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين غير أنه من المعروف تاريخيا أن الانتفاضة الأولي حققت نجاحا مذهلا علي الصعيد السياسي بسبب عدم استخدام الفلسطينيين أي سلاح ناري إنما كان نجاحها فقط باستخدام العصيان المدني والحجارة.