ربما لا توجد آفة تهدد البشرية حاليا أكثر من انتشار التعصب والتطرف الفكري, والذي عبر عن نفسه في أحيان كثيرة في شكل عنف دموي اجتاح العديد من مناطق وأقاليم العالم, ولم تكن الظاهرة خاصة بعقيدة أو اتجاه فكري أو جماعة بشرية, بل طالت الجميع, فهذه المشاعر السلبية التي يحملها البعض تجاه' الآخر' أي آخر, كانت وستظل موجودة لدي أتباع الاتجاهات الفكرية والنظريات السياسية والعقائد, ولكن الخطورة كل الخطورة تتمثل في انتشار هذه المظاهر واتساع نطاقها من مجموعات محدودة هامشية منبوذة إلي قلب التجمعات البشرية, بحيث يتراجع معها اعتدال وتسامح الغالبية, وتزداد اشلخطورة عندما تبدأ هذه الجماعات في تحويل الفكر إلي ممارسة, هنا نشهد الاعتداءات وأعمال القتل والتخريب وإبادة البشر من منطلق الاختلاف. ولعل أخطر أنواع التعصب والتطرف هو ذلك المنطلق من عوامل الانقسام الأولي التي تتمثل في اللغة والعرق والدين, فهنا تظهر المذابح وعمليات الإبادة التي تجري وفق هذه العوامل, ومعها تتصارع فئات المجتمع, وتنهار النظم, ويعم الخراب وينتشر, ففي مثل هذه النوعية من الصراعات القائمة علي أسس أولية وفي مقدمتها عنصر الدين أو العقيدة, عادة ما تتوافر دوافع إضافية غير منظورة لما يقوم به الفرد من أعمال قتل وتخريب. ووسط موجة المد المتصاعد من التطرف والتعصب, تراجع مناخ التسامح والاعتدال الذي كان يسود مجتمعات عديدة, وبرز نفوذ جماعات ومنظمات متطرفة, وانتقل التطرف والتعصب أيضا إلي الحلقات المحيطة بقوي ليست بهامشية في المجتمعات, الأمر الذي بات يمثل تهديدا خطيرا لأمن واستقرار عديد من المجتمعات. في مواجهة هذا المد الانغلاقي, لم تنفع أطروحات من قبيل حوار الحضارات, وحوار العقائد والأديان, بل أن الكثير من الرموز التي كانت تشارك في مثل هذه الحلقات من الحوارات, ارتدت كثيرا ودخلت دائرة الانغلاق الفكري والعقائدي علي النحو الذي قلص من دائرة' الاعتدال' داخل العديد من المجتمعات. وبات مطلوبا الآن وبشدة العمل علي كسر هذه الدائرة التي تمثل الخطر الأول حاليا علي أمن واستقرار العديد من المجتمعات, وتمثل تهديدا لمجموعات بشرية معرضة لدفع ثمن كبير لتراجع قيمة التسامح والاعتدال واتساع نطاق التعصب والتطرف. وللأسف الشديد لم يعد مجتمعنا المصري استثناء من هذا المناخ' المجنون', فظهرت علي السطح أصوات أطلقت العنان للسان كي يمهد الأرض لنار قد لا تبقي ولا تذر. يعلم من أطلق التصريحات, الاتهامات, الإساءات أننا في مجتمع متدين بالفطرة, وأن نسبة الأمية مرتفعة, والأهم الأمية الثقافية, مع انتشار لموجات التعصب المقيت الذي لا صلة له بالروح المصرية التي اتسمت بالاعتدال, يعلم من أطلق هذه التصريحات أن هناك حالة من حالات التوتر العام بفعل أوضاع اقتصادية ضاغطة واجتماعية صعبة, ومن ثم فإن مواصلة الشحن, إطلاق الأكاذيب, التجاوزات, يمكن أن يدفع بمجتمعنا نحو الكارثة, وهو أمر لم تشهده مصر من قبل, فكل ما وقع من قبل من توترات واشتباكات, أو اعتداءات طائفية لن يقارن علي الإطلاق بما يمكن أن تؤدي إليه حالة التشنج والتراشق بين رموز إسلامية ومسيحية من كوارث يدفع ثمنها المواطن المصري العادي, ويدفع الوطن كله ثمنا باهظا يدفعنا إلي الوراء مئات السنين, ففي مجتمع كمجتمعنا, بكل سماته الجغرافية والديموجرافية, فأن الاستجابة لعمليات النفخ الطائفي والاتهامات المتبادلة والغمز واللمز من قناة' دين الآخر', وترويج الإشاعات والأكاذيب, وعمليات التهييج والإثارة..سيكون كارثة علي الجميع. ورغم أن نسبة المحرضين لا تزال محدودة للغاية, إلا أ ن من سيدفع الثمن سيكون القطاع الأوسع من المصريين الذين لا علاقة لهم بكل ما يجري من سجال طائفي/ ديني كنا نظن أنه مقصور علي غرف الدردشة علي الشبكة الدولية للمعلومات, فبات يدخل بيوتنا وعلي لسان أشخاص يشغلون مواقع ليست بهامشية. ووجد أنصار الفتن من يتجاوب معهم سريعا وينفخ في كل ما يقولون, وجدوا صحفا للأسف مصرية وفضائيات مصرية أيضا سارت علي درب الإثارة والتهييج رغبة في جماهيرية علي أشلاء الوطن. مؤكدا أن ما وصلنا إليه الآن من سجال طائفي/ ديني يعد بمثابة إفراز طبيعي لخلط الدين بالسياسة, وإفساح المجال لرجال الدين للعب أدوار لم تكن أبدا لهم, فقد أعجبتهم لعبة التصريحات, وسجال الفضائيات ففاقوا لاعبي كرة القدم في الوجود في الفضائيات وبعضهم استقر في وظيفة مقدم البرامج( الدينية) والآخر استهوته لعبة الظهور الإعلامي. لقد آن الأوان كي يتوقف رجال الدين عن ممارسة لعبة تهدد بحرق الوطن, آن لهم أن يترجلوا ويعودوا إلي مواقعهم الأصلية في' المحراب' عابدا, ناسكا, ناصحا, شارحا مفسرا, ميسرا...... في نفس الوقت نحن في أمس الحاجة في مصر إلي جماعة من المصريين تتوافر لديهم المشاعر الإنسانية الراقية التي تتعامل مع البشر جميعا, بصرف النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم وطائفتهم, باعتبارهم مخلوقات لله, نحتاج إلي بشر يلتقون علي أرضية مصرية, بشر تحركهم مشاعر إنسانية راقية وتكون مهمتهم الوحيدة نشر فكر التسامح والاعتدال, وتواجه التطرف والتعصب والانغلاق, حركة تعلي من قيمة الإنسان كإنسان, وتدافع عن حقوق البشر وعن قيمة المساواة, حركة يشارك في الدعوة لها وتأسيسها مثقفون وكتاب مصريون, ورجال أعمال وطنيون شرفاء من مختلف الانتماءات, يلتقون علي أن الوطن يواجه خطر فتنة شديدة, ولهذا السبب تحركوا من أجل مصر ومن أجل المصريين بصرف النظر عن الأصل العرقي, اللغوي, الديني, الطائفي...حركة تطالب بعودة رجال الدين إلي أداء وظائفهم الأصلية, تتوصل إلي ميثاق شرف يتوقفون بموجبه عن ممارسة لعبة الإعلام أو لعبة' حرق الوطن', حركة تمهد الطريق لدولة مدنية قائمة علي المواطنة كما تقول المادة الأولي من الدستور, حركة تدعو إلي دولة محايدة دينيا, تمارس الوظائف المتعارف عليها للدولة وتترك مسألة الجنة والنار للخالق يحاسب البشر وفق رأفته ورحمته التي لا يدركها البشر وفي مقدمتهم الساسة وأيضا كثير من رجال الدين.