لم يكن غريبا أن أضع في الخطة التي حددت ملامحها لدراسة السياسة الثقافية هدفا ثالثا بالإضافة إلي المحافظة علي الهوية الثقافية ورسم مستقبل الثقافة في ضوء رؤية استراتيجية نقدية, وهو تهيئة الإنسان المصري لتقبل الثقافة العالمية وانتقاء العناصر الملائمة منها والتي لا تتعارض مع ثقافته الأصلية, وذلك لإثراء الثقافة ومواكبة ما يدور حوله.وتحديد هذا الهدف نبع أساسا من منهجنا العلمي الذي التزمنا به بعد سنوات قليلة من اشتغالي بالبحث العلمي كباحث مساعد عام1957. وهذا المنهج بلورته بعد سنوات من الممارسة النظرية والقيام ببحوث ميدانية شتي في مختلف فروع العلم الاجتماعي, وهو المنهج الذي أطلقنا عليه المنهج التاريخي النقدي المقارن. وهو منهج تاريخي لأنه لا يمكن فهم الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بغير ردها إلي جذورها, وتتبع تحولاتها عبر الزمن. غير أن تأثير التاريخ العالمي لم يتقصر علي عملية الاقتباس من منجزات التقدم الغربي, ولكن أخطر من ذلك أن توازن القوي بين الدول الأوروبية العظمي وصراعها حول أقاليم الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد تهاوت ربط مصر بالعالم كان ضرورة لأنه يسمح للمجتمع المصري أن يكشف عن أسرار التقدم الغربي, وتلك في الواقع خطوة أولي في مجال القضاء علي التخلف والاندفاع إلي مجري نهر التقدم الإنساني العظيم ومن هنا كان اهتمامي بقراءة التاريخ منذ بداية عهد التكوين العلمي. ليس التاريخ المصري فقط من مختلف فتراته ومصادره, ولكن التاريخ العالمي أيضا. وذلك لإدراك مبكر بأهمية التأثير الحاسم لمعطيات التاريخ العالمي علي التاريخ المحلي. ولننظر إلي بداية تكون الدولة الحديثة في مصر علي يد محمد علي. فقد كان للتطور الصناعي والتكنولوجي ونمو الفكر العلمي في أوروبا أثر بالغ في تحديث مصر. ذلك أن محمد علي أدرك بثاقب بصره أنه لا يمكن أن ينقل المجتمع المصري من الطور الزراعي المتخلف إلي نموذج المجتمع الصناعي بغير أن يستفيد من التقدم الغربي في جميع الميادين. ولذلك بادر بإرسال بعثات متعددة إلي فرنسا أساسا حتي يتدرب المبعوثون علي الصنائع الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة, والفكر العلمي ومنجزاته. وعاد هؤلاء وكانوا دعامة قومية في إنشاء المدارس والمصانع, وفي بناء السدود والقناطر. غير أن تأثير التاريخ العالمي لم يتقصر علي عملية الاقتباس من منجزات التقدم الغربي, ولكن أخطر من ذلك أن توازن القوي بين الدول الأوروبية العظمي وصراعها حول أقاليم الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد تهاوت أدي بها إلي التركيز علي مصر من خلال منافسة شرسة بين الإنجليز والفرنسيين. غير أن محمد علي بعد أن استتب به الأمر وشرع في بناء إمبراطورية وبدأ في التوسع في أراضي الشام بل إنه تجاسر وفكر في الوصول إلي عاصمة الخلافة ذاتها, تآمرت عليه الدول العظمي وضربته ضربة قاصمة, ترتب عليها تفكيك جيشه وهدم المصانع التي سبق له أن أقامها وتأكدت في المراحل التاريخية التالية لعصر محمد علي أن البعد الدولي يؤثر تأثيرا حاسما علي مسيرة المجتمع المصري. غير أن الاهتمام بالتاريخ كان من منطلق نقدي, وذلك لفرز السياسات المتناقضة والمتصارعة, وأخيرا منهج مقارن علي أساس أنه من الأهمية بمكان أن نتعرف علي أوجه الشبه والاختلاف بين مصر وباقي الدول, لكي نتبني آليات التقدم السائدة في المجتمعات الأخري. ويمكن القول أن هذا الاهتمام المبكر ببلورة منهجنا التاريخي النقدي المقارن هو الذي قادنا إلي الاهتمام بتحليل مختلف تيارات الثقافة العالمية. وهذا الاهتمام تم بشكل منهجي من خلال تطبيق مناهج وأدوات علم اجتماع المعرفة للتمييز بين الخطابات الإيديولوجية وتحديد أسباب نشأتها وتحولاتها عبر الزمن, والوظائف التي أنتجت هذه الخطابات للقيام بها. ربط مصر بالعالم كان ضرورة لأنه يسمح للمجتمع المصري أن يكشف عن أسرار التقدم الغربي, وتلك في الواقع خطوة أولي في مجال القضاء علي التخلف والاندفاع إلي مجري نهر التقدم الإنساني العظيم, وفي هذا المجال لم تخدعنا المناظرات الشهيرة التي دارت علي اتساع الوطن العربي بين الوافد والموروث أو بعبارة أخري بين الاصالة والمعاصرة. وذلك لسبب بسيط مؤداه, أنه حين نمتلك عقلا نقديا بصيرا سنكون قادرين علي التمييز بين العناصر الثقافية الإيجابية والعناصر الثقافية السلبية. بل إنه سيسمح لنا بعد التأمل في تجارب وخبرات الأمم الأخري بالتأليف الخلاق بين متغيرات متعددة كان يظن من قبل أنها متناقضة. علي سبيل المثال اكتشفنا مبكرا أنه ليس هناك تناقض بالضرورة بين العلمانية والدين. وذلك لأن العلمانية تقتضي في معناها الحقيقي فصل الدين عن الدولة, وليس فصل الدين عن المجتمع! وذلك لأن الدين نسق اجتماعي رئيسي ومهم ولا يمكن بأية حال فصله عن المجتمع. ولكن يمكن بل وينبغي فصله عن الدولة, لأن خبرات الأمم أثبتت أن الدولة الدينية مهما كانت صورتها هي شر خالص, لأنها ستقوم بقمع الخصوم السياسيين وكأن قادتها هم ظل الله علي الأرض! ليس ذلك فقط بل يتهم الخصوم بأنهم كفرة أو ملاحدة يحق القصاص باسم الدين منهم. وهذه أوضاع فيها ما فيها من اعتداء علي حقوق الإنسان والديمقراطية معا, ولذلك تقوم في الوقت الراهن في العالم العربي معركة كبري بين أنصار الدولة الدينية والذين يتركزون في جماعات إسلامية متطرفة تمارس العنف والإرهاب الصريح, أو في جماعات إسلامية مثل الإخوان المسلمين في مصر لايدعون للعنف, ولكنهم ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية في السياسة والاقتصاد والثقافة. في السياسة بنقد الديمقراطية واعتبارها بدعة غربية, وتطبيق الشوري, وفي الاقتصاد بالهجوم علي فوائد البنوك باعتبارها ربا, والدعوة إلي اقتصاد إسلامي غامض الملامح, وفي الثقافة بالعدوان علي الحرية الشخصية للمواطنين وتقييد حركة المرأة. هذه هي الملامح الأساسية للدولة الدينية الداخلة في صراع عنيف مع أنصار الدولة المدنية التي تقوم علي الدستور وليس علي الفتوي, وعلي التشريع وليس علي الآراء الفقهية البائدة. وليس معني الإطلاع علي تجارب الأمم المتعددة والاستفادة من منجزاتها الثقافية الاعتداء علي الخصوصية الثقافية لمجتمعنا لأن الخصوصية الثقافية في تقديرنا ليست نسقا فكريا مغلقا ترسبت صخوره منذ قرون ولا يمكن تحريكها, ولكنها نسق فكري مفتوح, بمعني أنها تتفاعل مع الغير الثقافي بغير عقد وتأخذ منه ولكنها بحكم تراثها القديم المتجدد تعطيه أيضا. درس التاريخ يقول إن العلاقات المركبة عبر مراحل التاريخ يمكن اختزالها في جملة واحدة أخذ وعطاء!