مجلة أمكنة, التي احتفت مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضي بمرور10 سنوات علي إصدارها, هي المجلة المصرية الوحيدة المعنية بتاريخ المكان وثقافته, والتي يصدرها مجموعة من المبدعين السكندريين هم الروائي علاء خالد والفنانة سلوي رشاد, والشاعر مهاب نصر. والحال أن التحولات الجذرية التي حدثت في مصر في العقد الأخير, أي ظهور طبقات واندثار طبقات.. هجرة داخلية وخارجية.. تغيير جذري وسريع في كل شيء, أحدثت نقلة في المجتمع والطبقات والافكار والسينما والتليفزيون. وخلال عشر سنوات هي عمر المجلة أصبح هناك منهج معين راكمه300 كاتب ساهموا في المجلة خلال سنواتها. العدد الأخير من المجلة التي كانت ومازالت تطبع بالجهود الشخصية يتناول مكانا مميزا في التاريخ المصري الحديث, وهو الجامعة. بهذا العدد يحكي قادة الحركات الطلابية تاريخهم مع الجامعة, من خلال حوارات مع علاء أو من خلال كتابتهم لمقالات, ويتحدث عن الجامعة كل من: علاء الديب وصلاح عيسي وأمينة رشيد ود.محمد أبوالغار وسيد البحراوي وغيرهم. في جميع موضوعات المجلة العشرة بداية من الاسكندرية في العدد الأول, والصحراء في الثاني, والثالث للمدينة, الرابع للفلاح, الخامس للبطل, السادس للمسارات, السابع للحدود, والثامن للخيال, وتحولات المدن في القري, وصولا الي الجامعة في عددها الحديث, طوال المسيرة كانت الأنثربيولوجية هي المدخل المناسب لقراءة الواقع, فكانت سيرة الناس أو الحكاية هي البطل. مع أول عدد صدر في سنة1999 قام علاء وسلوي بحوارات في السوق الفرنساوية, بحي المنشية, وهي سوق كوزموبوليتاني بامتياز, شهد الكثير من التحولات الكبري في مصر. سوق حيوية ظل الأجانب فيها يقودون عجلة التجارة حتي حدث التأميم1961, وبدأ الأجانب في الخروج والهجرة. كان هم الكاتب والمصورة معه ليس اجراء تأريخ للمكان, أو الاستماع الي ذكريات الناس عن فترات تاريخية بائدة, وانما محاولة معرفة تصور الناس عن تاريخهم وحيواتهم في مكان شديد الحيوية. وتأصيلا لفكرة الانثربيولوجية لجأ القائمون علي أمكنة في عددها الثاني الي معالجة جدلية الحياة والموت, واحدة من الجدليات المسيطرة في أحد مستويات قراءتها. فكان أن التقوا بسكني المقابر بكنيسة مارجرجس والتقوا بمجموعة كبيرة من الأقباط في مصر القديمة. وكانت الأسئلة عن كيفية رؤيتهم للحياة وهم ملاصقون للمقابر وعلاقتهم بالموت. ورغم نخبوية المجلة لأسباب تتعلق بمحدودية النسخ ألف نسخة سنويا وثقل الفكرة, الا انها نجحت منذ الوهلة الأولي في تخطي فكرة الاستعلائية التي تهيمن علي الاصدارات الأدبية واحيانا الصحفية حينما يتعلق الأمر بالكتابة عن المهمشين والبشر بشكل عام. وكان المدخل الرئيسي لهم هو الاعتماد علي الحوارات وجعل الحكاية علي لسان الأبطال. فكان القارئ يكتشف مع الكاتب هؤلاء الأشخاص, ويكتشف فيهم نفسه, من خلال حكايات كتبت بلسان أصحابها بالعامية دون تدخل تحريري من الكاتب, بحيث يحتفظ الأخير للقارئ بحقه في الدهشة, وبحيث لا يشعر المتلقي بوجود مسافة بين المنطوق والمدون. وكانت الأداة الثانية هي الصورة الفوتوغرافية. سلوي رشاد الفنانة التشكيلية خريجة الفنون الجميلة قسم التصوير عام1986, أرادت خلق تناص نادر بين النص والصورة, بحيث يشحن كل منهما الآخر بمعان أكثر عمقا. الصور في أمكنة لها خط جمالي ونسق ممتد, يشبه من ناحية جمالية الفكرة في أمكنة, ومن ناحية أخري يشبه صاحبة الكاميرا في أمكنة رشاد, والتي أدخلت البعد التشكيلي لعالم الصور الفوتوغرافية, لتصبح الصورة بطلا مكملا, محاولة نقل الشحنة الجمالية الموجودة مع اللوحة إلي فضاء الصورة. ورغم اعتماد أهم أداتين من أدوات الصحافة وهما اللقاءات الحوارية والصورة الفوتوغرافية, الا أن المجلة تقف علي مكان مابين الصحافة والأدب, منحازة بوضوح لفكرة المقال الأدبي. التشوه... تشوه الأمكنة والفضاءات والمدن والشوارع كان هاجسا منذ الوهلة الأولي. الخوف من تنظيف التاريخ من أجل الابقاء علي الفكرة التاريخية البحتة.. من أجل تلميع التاريخ هو من وجهة نظر القائمين علي المجلة ظلم لفكرة التاريخ نفسها. فكان الخوف من اختفاء فترات معينة بأفكارها وثقافاتها وتأويلاتها هو المسئولية التي شعر بها علاء خالد الذي قال ذات مرة ما أخشي عليه حقا هو اندثار فترة... بأفكارها.. بشكل الحياة فيها... شكل الخيال بها... تركيبة العقل.. اختفاء هذه الأمور من التاريخ يحدث اضطرابا! لان الانسان لن يجد مرجعيته... عقليته المتخيلة.. الحياة السابقة.. لن يتمكن من حل مشكلاته أو تجاوزها دون النظر في ماضيه وتاريخه, لان جزءا لا يستهان به من تركيب الفرد يتعلق بارتباطه بالأفكار الراسخة في الماضي. اعتمدت المجلة علي كسر الحدود ليس فقط المكانية ولكن أيضا الخيالية. وهو ما يؤكده علاء في افتتاحية العدد الثامن المعني بفكرة الخيال: في هذا العدد نسير وراء الخيال في بعض أشكاله وتبدياته, ونؤكد أكثر علي أشكاله الاجتماعية التي عاشت بيننا وعشنا داخلها. السينما, التليفزيون. الذكريات, صور العائلة, أساطير حياتنا, وإذا كان الخيال مكانا للحرية فهو أيضا مكان اللقاء بآخرين لإحياء تلك الرابطة التي انقطعت بالموت, ليس رغبة في استعادة الموتي بل رغبة في استمرار الحوار, فالخيال مكان يتجاوز الموت. ولرمزية الكثير من افكار المجلة يلجأ اصحاب المجلة الي أشكال أكثر ابتكارية للتناول, ففي موضوع الخيال مثلا كان من الصعب معالجة الموضوع بشكل مباشر فكان اللجوء الي صالات السينما مثلا, لطرح سؤال حول العلاقة الشخصية التي يمكن أن تنشأ بين الشخص وبين صالات العرض. ماهي المشاعر التي تواجهك وأنت تدخل صالة معتمة؟ وما هي مشاعر من يعملون في التصوير; عند تحميض شريط فيلم؟ وغيرها من الأسئلة الشديدة الفنية التي تضع من توجه اليهم كما القارئ أمام معضلات فكرية وجدليات عميقة. ولجاذبية المنسيات, ركز ثلاثي المجلة علي الأماكن المنسية والمهمشين, اعتمادا علي صراع كلمة المنسي مع آخر مذكور وذي وجود أثقل.. كما أن هذه الاماكن تحمل شحنة حنين أو مغادرة تجعل من الكتابة فيها قدرا من الخصوصية. لهذا السبب اعتنت المجلة بالاماكن القديمة, التي من الممكن القيام بنوع من التأويل لها لانها لها ثقلها الذي يدعمه تاريخ وحياة مستقرة, بعكس الاماكن الجديدة التي ليس من السهولة تأويلها وتكوين رؤية ثقيلة عنها, والتي يمكن التعبير عنها بشكل سريع وذي حس صحفي أكبر.