كانت أمي تتهمني دائما بالجنون حينما تراني وقد ثبتت عيني علي شيء ما في دهشة وقد اتسعت الحدقة حتي صارت كفنجان فارغ, لم يرمش لي جفن وأنا احدثها عما اري:حقول خضراء ممتدة الي مالا نهاية تكاد تلامس السماء, وبيوت بعيدة متناثرة بلون الشفق وأناس من بعيد أراهم يلوحون لي ويدعونني للانضمام إليهم في بيوتهم الصغيرة لكنني اجفل من وجوههم المغبرة وسرابيلهم البيضاء والتي تغطي النصف الاسفل من الجسد, أياديهم ممتدة نحوي وابتلع خوفي فيقف في حلقومي كقذيفة بارود مشتعلة, لا احرك ساكنا. القدم الصغيرة تخرج من جسد محدود الحركة, في تقوس ظاهر للعيان تبدو الساقان الناحلتان, لايوجد تناسب بين حجم الجسد والقدم الممددة لاعلي علي الدوام, يحلم صديقي الذي لا اعرف إلا اسمه الأول ان يرتدي حذاء, لايهم ان يكون قديما أوجديدا, ينتعله حتي وهو جالس علي الحصيرة أو متكوم علي كرسيه ذي ا لعجلات الاربع, يري بعينه أناسا كثيرين تروح وتغدو منتعلة الحذاء, صارت هوايته مراقبة الاقدام وهي تسير, تبطئ أو تسرع في الخطو, كل علي حسب ما يدفعه ويشغله حتي الاطفال وهي تهرول في الشارع وتطوح بقدمها اي شئ تصادفه, يراقب ذلك الفعل بشجن غريب, تحس به امه التي تحبك وضع الايشارب علي رأسها وتظل تسير به في الشوارع بعد انتهاء جلسة العلاج الطبيعي, لايريد ان يعود للبيت ويتمدد جسده علي الحصير يشاهد التليفزيون السخيف الذي لايفهم منه غير افلام الكارتون والاغاني أما الافلام والمسلسلات يمقت متابعتها وبيده السليمة يقلب في القنوات, ويطمئن الي ركون جسده الي الحائط وحوله الوسائد المحشوة بالقطن.نصحتني أمي أن اكف عن القراءة وان الكتب مرايا عميقة تخطف العقل وتلقي به في جبها, تغير الروح والعقل وتجعلنا نشعر بالحياة ونفكر وينطلق اللسان دون قيد في تهويماته وتعبيرات الحكمة تتجلي علي مظهري ويظن الناس ان بي مسا من الشيطان. مازالت أمه تبكي, ليس معها رجل, رجلها تركها وترك الولد صغيرا وتزوج باخري تلد له أطفالا طبيعيين لايعانون صرعا أو شلل اطفال. وطلق المرأة وصار يرسل لها بضعة جنيهات لاتكفيها وعلاج ابنها شبه يومي, اصبح الولد رجلا, وجهه منحوت من ابيه, عيناه الزائغة تري فيهما عيني الاب الذي تبرأ من حملها الثقيل, لم تعد تعتب عليه أو تشتاق اليه.أنا ايضا اريد ان احيا حياتي كما ينبغي ويحلو لي, لست مجنونة حتي تأتوني بشيخ يقرأ القرآن علي, أنا احب ان اقرأه بنفسي وتمسني كلماته وتنطبع معانيه في قلبي, هو بداخلي لايفارقني لحظة.. لما اشعر بضيق وإحساس بالوحدة اقرأ القرآن في حجرتي, اغلق بابها جيدا لاختلي بنفسي واقرأ واتدرج حتي اشعر بحفيف الملائكة من حولي, وتنقطع عني صفة الدنيوية تماما وأحلق والبكاء يغسل عيني وقلبي ويتساقط علي حجري وأنا ممسكة بكتاب الله. لاتفعلوا هذا بي وتنعتوني بالجنون, أو لانني اتطوح في الهواء وارتدي تنورتي الطويلة واضرب بكلتا يدي الهواء ويتبدد الحزن بداخلي الي فرح صغير ودهشة تعقبها نوبة بكاء لا ادري سره.ارفض بشدة الذهاب الي الطبيب واجراء الكشف الدوري الذي امقته ويجعلني مستباحة لهواجس الطبيب وتكهنات الممرضة ودعوات امي وهي ترفع اكفها بالدعاء وزوجي الذي ينتظر بالخارج وقد تملكه اليأس لولا انه باق علي العشرة. عشر سنوات وأنا اتنقل بين حجرات العمليات ومبضع الجراحين, بعضهم يشخص ان الرحم مائل للخلف أو أني احتاج الي شق البطن لعلاج تكيس المبيض ويصر كل فريق علي تشخيصه واجبر ان استنشق الغاز المخدر واستلقي علي طاولة باردة حديدية. لوح لي بحذائه في وجهي والابتسامة منثورة في شجن وشفته السفلي مائلة للامام قليلا. يهمهم في تغنج غير مقصود ويخبرني أن أمه عثرت له علي حذاء اسود يناسب مقاس قدمه لكن ينقص الجورب الانيق واخذ يشير الي قدميه, اعطاني الحذاء وضممته الي صدري كأنه طفلي الذي لن اراه يخرج مني واسمع صراخه والدم يتقاطر منه والطبيب يمسكه من احدي قدميه للاسفل ويخبط علي ظهره وبطنه وحبلنا السري ممتد فيما بيننا لا اتحمل مشرط الجراح وهو يقطعه, تعلو صرخاتنا معا ونتشبث بها. هو ايضا يصرخ في أمه لانها نسيت ان تحضر له جوربا نظيفا بدلا من ذلك الجورب الحائل اللون المتهدل علي ساقيه النحيفتين. يرفض ان يدس قدميه في الحذاء قبل العثور علي جورب مناسب, يشر الي في حركة عصبية اعرف بعدها ما سيحدث, سوف تعم الفوضي المكان ويتلوي كأنه محيي اسماعيل في الاخوة الاعداء, وتلحقه أمه وبصعوبة تحشر فمه بقماش قديم حتي لايعض لسانه أو شفتيه, واقف في دهشة لا احرك ساكنا.شعرت به وقلت له بعد ان تركني اربت علي كتفه وأنا آخلع له جوربي القطني الطويل: لاتخف, فهناك طائر ابيض يغرد لك وينتظر ان تنثر له الحب ليلتقطه من كفك.نظر الي كفه المقوسة كظهر كوازيمودو في احدب نوتردام, حاول ان يفرد كفه المصوبة دائما ناحية صدره لكنه لم يقدر.ابتسامته اتسعت كثيرا وظهر اتساع فمه مما اعطي الفرصة للعابه الدافئ ان يسيل من الزاوية اليسري لفمه وهو يحلق بكتلة جسمه علي الكرسي مصدرا فو فو فو فو طويلة ثم خفت صوته لما شعر بملمس يدي علي شعره الاكرت المجعد واعتبرها طائره الابيض وغفا وكره ان توقظه امه. لما طال وقوفي, ابتدرته قائلة: لقد تعبت من الوقوف, دعني ارحل لاستريح قليلا. ولانني افهم اشاراته وثأثأته جيدا, راعني ما وصلني منه من اشارات وتلميحات جعلت امه تضع وجهها في الارض وتنهره في قسوة. مازلت علي حالي أحلم جيدا وعيناي مفتوح الدهشة ماؤها يريم علي قلبي. تعمدت الا التفت للوراء حتي لا اري دموعه, دكفيني ان اسمع نهنهاته التي توجع القلب وصوت نشيجه يعلو شيئا فشيئا حتي صار صراخا وعويلا يخترقني ويجعلني اشعر بالغثيان وبرغبة قوية في التقيؤ, لكنه كان تقيؤا للداخل, السائل الاخضر الغامق يرتد الي داخل فمي, مرارته تجعلني اراه يتحرك نحوي بكرسية ويهديني عجزه هدية, يده بيضاء من غير سوء, وجه في العلن يجبرني أن أتبينه والسائل يرتد لجوفي, ولا حيلة لي في السيطرة عليه. قطب الطبيب الماهر جبينه واعلن في صرام تكسوه شوائب الذئب: الجنين غير مستقر وربما يكون فارق الحياة وهو في اسابيعه الأولي المبكرة. تلك المرة جثوت علي ركبتي وتمددت وبيدي سكين حاد اطلب من الطبيب ان ينتزعه من احشائي ويلقيه في البحر الميت ويخلي سبيلي كي احلم وعيني مفتوحة. مازلت ألوح له بالسكين وشوائب الذنب تكسو ابتسامته الباهتة.