ما يحدث في روسيا الآن لخصه البعض بحكاية تنابلة السلطان. فعندما احترق قصر السلطان عبد الحميد قال أحد التنابلة لتنبل آخر: الحريق اقترب منك فأرجو أن تشعل لي هذه السيجارة. فرد عليه التنبل, من تنبلته, انتظر قليلا إلي أن يأتي إليك الحريق. هكذا اعترف رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بأن السلطة تتحمل المسئولية الكاملةي عن مواجهة الكوارث الطبيعية. جاء هذا الاعتراف ردا علي ما كتبه مواطن روسي في مدونته, حيث توجه إلي المسؤولين بأقذع العبارات منتقدا عملية إطفاء الحرائق في قريته بمقاطعة تفير القريبة من مقاطعة موسكو. المدون ذكر المسئولين بالوضع أيام الشيوعيين, حيث كانت توجد في القرية ثلاث بركي مخصصةي لإطفاء الحرائق, بالإضافة إلي ناقوس إنذار وسيارة إطفاء لقريته وقريتين أخريين. قال المواطن الغاضب إن البرك ردمت في عهد الديمقراطيين وبيعت لمقاولي البناء, وسيارة الإطفاء اختفت, أما الناقوس فاستبدل بهاتفي معطل. وطالب بإعادة الناقوس وحفر البرك من جديد علي أن يتعهد شخصيا بملئها والعناية بها. وردا علي ذلك أعرب بوتين عن موافقته علي هذه الملاحظات بشكل عام, مضيفا أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلي درجات الحرارة المرتفعة التي لم يعرف العهد الشيوعي مثلها أبدا. بوتين ببساطة حول مجري الحديث ليفلت هو وغيرة من المسئولية. ولنستعرض الآن ما يجري: الدخان الكثيف يغطي موسكو وسط استمرار حرائق الغابات وامتدادها من وسط روسيا الي جنوبها. الرياح الساخنة حملت دخان حرائق الغابات إلي كل أنحاء العاصمة وحتي داخل مترو الأنفاق والمكاتب والمنازل. الدخان الكثيف تسبب في تحويل مسارات عشرات الرحلات الجوية من موسكو إلي المدن الروسية الأخري. أعلنت وزارة الصحة الروسية أن دخان الحرائق المشتعلة رفع معدلات أول أكسيد الكربون إلي خمس أضعاف معدلات المستوي الذي يعتبر آمنا. لجأ عدد من السفارات الأجنبية في موسكو, إلي إجلاء موظفيها' غير الضروريين', وأفراد أسر العاملين بها, بسبب مخاوف من أن تتسبب الحرائق التي تشهدها روسيا حالياي, في انبعاث مواد مشعة في الهواء, خاصة في منطقة' بريانسك', التي شهدت كارثة انفجار مفاعل' تشيرنوبل' النووي, قبل24 عاما. تواجه المنطقة الواقعة علي الحدود مع أوكرانيا, وتبعد حوالي350 كيلومترا فقط عن جنوب غربي موسكو, مخاوف متزايدة من ارتفاع مستويات الإشعاع, من نفايات نووية دفنت تحت الأشجار, بإحدي المناطق التي امتدت إليها الحرائق, بالإضافة إلي ارتفاع درجات الحرارة إلي مستويات غير مسبوقة. تشارك كل من أوكرانيا وكازاخستان وبيلوروسيا وإيطاليا في إطفاء الحرائق. ارتفعت حصيلة الضحايا إلي52 قتيلا وأكثر من400 مصاب. أعرب مسؤولون في منظمات إنسانية ومراقبون عن اعتقادهم أن البيانات الرسمية قللت من أعداد الضحايا وحجم الخسائر المادية. ووصفت وسائل إعلام الخسائر بأنها هائلة وقدرت التلف في المحاصيل الزراعية بمليار يورو32 ر1 مليار دولار. قال سيرجي كيريينكو رئيس شركة' روس أتوم' الحكومية الروسية للطاقةالنووية إن الحرائق المشتعلة حول مدينة ساروف بمقاطعة نيجني نوفوجورد لا تشكل خطرا علي المركز النووي الفيدرالي الواقع قرب المدينة. وتم نقل جميع المواد المتفجرة والمشعة من المركز. أعلنت وزارة الدفاع أنها نقلت إلي أماكن آمنة' صواريخ من مستودع في منطقة موسكو بينما أعلنت وزارة الحالات الطارئة من جانبها أنها تراقب الوضع في منطقة بريانسك جنوب غرب التي أصيبت بالإشعاعات خلال كارثة تشرنوبل النووية في1986 هكذا هو المشهد الآن. علي هذه الخلفية المرعبة أعفي الرئيس الروسي ميدفيديف عدد هائل من كبار ضباط وقادة الأسطول البحري العسكري بسبب تقاعسهم عن المهام التي كلفوا بها في مساعدة الجهات الأخري في إخماد الحرائق. وفي الوقت نفسه كان رئيس الوزراء بوتين يهنئ الطيارين الروس والأوكرانيين الذين نجحوا في إخماد بعض الحرائق. بينما صرح وزير الحالات الطارئة سيرجي شويجو أن العامل البشري في هذه الحرائق يصل إلي99%. إن الوضع في غاية المأساوية, ولكنه لم يصل بعد إلي مستوي الحملة الدعائية الغربية بحلول كارثة نووية تسببها روسيا للعالم والتحليلات المجانية الأمية بانتشار الغبار الذري. لكن الخوف كل الخوف في أن تستخدم المأساة لتصفية حسابات سياسية لا أحد بحاجة إليها الآن في روسيا. هناك إهمال وتقاعس وحماقة. فبدلا من أن كان الناس في الحقبة السوفيتية يهبون يدا واحدة للقضاء علي مثل هذه الظواهر تغير الوعي وتغيرت الظروف وأصبح كل واحد لا يفكر إلا في نفسه وفي الإفلات بأقل الخسائر سيرا علي حكمتين مرعبتين:' إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك' و' أنا ثم الطوفان'. هكذا تغير الوعي, وهكذا حول طواغيت المال الروس كل مفاصل أمان الدولة إلي سلعة قابلة للبيع والشراء. ولكن الأخطر هو الجانب السياسي لما يجري الآن في روسيا. من مصلحة من إظهار ضعف سلطة دميتري ميدفيديف؟ ولصالح من؟ ملف القوقاز الروسي ينشط من جديد, وتفجيرات مترو موسكو الأخيرة, وفضيحة التجسس الروسية في الولاياتالمتحدة شبت مثل الحريق وهناك إجماع علي خيانة داخلية سواء من داخل الأجهزة في موسكو أو من بين أعضاء الشبكة, ما يذكرنا بما جري عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وقيام بعض ضباط المخابرات السوفيتية ببيع قوائم الجواسيس وشبكات التجسس السوفيتية للغرب. هل هناك قوي داخلية بدأت تلعب لصالح دول أخري, أو لصالح قوي سياسية بعينها في موسكو؟ هل الأجهزة الخاصة لها دخل فيما يجري الآن. أو بالأحري هل يتم الاستفادة مما يجري الآن سياسيا وأمنيا لصالح شخصيات سياسية بعينها؟ إن بوتين هو آخر شخص يمكن أن يستفيد مما يجري, لأنه هو الذي أتي بمدفيديف. وهو الذي لم شمل روسيا التسعينات. وهو الذي يحاول إرساء وتدشين طريق جديد لروسيا. فهل ظهرت تناقضات ما قبل الانتخابات بأقل من عامين؟ أم أن الطابور الخامس بدأ ينتعش في ظل أزمة مناخية كان من الممكن التغلب عليها لولا طواغيت المال والمصالح الضيقة وضرب أغلي ما تركه الإنسان السوفيتي من قيم وأخلاقيات اجتماعية ونفسية. بعد أزمات الغاز والنفط التي حاولت الآلة الإعلامية الغربية تشويه روسيا من خلالها بأنها شريك غير موثوق فيه, تأتي أزمة القمح الروسي. فقد قررت السلطات الروسية فرض حظري مؤقت علي تصدير الحبوب بداية من15 أغسطس الحالي. البعض يري القرار صائب تماما لأنه سيحد من إقبال المضاربين علي شراء الحبوب بكمياتي كبيرة, ما سيساعد في تأمين مخزوني كافي وتجنب الإخلال بمعادلة العرض والطلب. والبعض الآخر يعرب عن مخاوفه من أن يؤدي قرار الحكومة إلي الإضرار بسمعة روسيا كمصدري موثوقي للحبوب. فموسكو ستضطر في هذه الحالة إلي التخلي عن تنفيذ عقودي مبرمة, منها علي سبيل المثال صفقة قمح إلي مصر تقدر ب180 ألف طن. وبالتالي قد يلجأ الزبائن إلي دولي أخري لاستيراد حاجتهم من الحبوب.