شهدت الفترة الأخيرة ظهور عدد كبير من دور النشر الي جانب اختفاء دور نشر أخري الأمر الذي خلق انطباعا بوجود فوضي ما في هذا المجال الحيوي للثقافة المصرية وبصورة تجعلنا نطرح جملة من الاسئلة حول ضوابط عملية النشر والقواعد التي تحكم شروط التأسيس وضمانات الاستمرار, لكي لا يصبح النشر مهنة من لا مهنة له. في البداية قال رئيس اتحاد الناشرين محمد رشاد هناك ضوابط للتأسيس فرضها قانون اتحاد الناشرين لعام1965 تطلب من الناشر ان يحصل علي سجل تجاري ولكن يتم منحه السجل علي أساس انه مكتبة, وأن يكون حاصلا علي مؤهل عال, الي جانب العمل بمهنة النشر مدة لا تقل عن خمسة أعوام, وكل هذه الشروط لضمانة الاستمرار ويشير رشاد الي ان هناك اتجاها لتعديل هذا القانون ليناسب وقتنا الحالي والتطور الذي يواكب عملية النشر, ويتابع: القانون الحالي واللائحة الداخلية للاتحاد تسمح بأن يوقف الاتحاد نشاط أي دار غير مستمرة أو لا يوجد لها إنتاج في السوق ليتم تحويلها لمكتبة توزيع, كما ان لدينا صلاحيات لشطبها من العضوية. وحسب رشاد يسعي الاتحاد لتطوير عملية النشر وتزويد الناشرين بخبرات جديدة عن طريق اقامة دورات تدريبية, يستعين فيها بخبرات أجنبية في التوزيع والاخراج والنشر. كتب بير السلم من جهتهتا تري الناشرة فاطمة البودي أن تأسيس دار نشر يستغرق وقتا طويلا وموافقات كثيرة من جهات حكومية وأمنية, وتقول أظن أن بعض الدور الحديثة ليست لديها أوراق قانونية فهي مجرد دور نشر علي الرصيف, لكن مهنة النشر ليست مهنة لمن لا مهنة له إذ يجب علي كل ناشر ان يكون لديه طريقة تفكير منظمة وان يكون علي دراية بالاقتصاد لان النشر في النهاية مشروع تجاري له ابعاد ثقافية, ولذلك علي الناشر ان يتمتع بالحد الادني لضمان الاستمرار, لكن وجود دور نشر بهذه العشوائية أمر يضر بالسوق لأن البعض لا يهتم باختيار مضمون الكتاب أو الشكل الإخراجي له وتري البودي التي تعمل منذ أكثر من خمس سنوات ان العملية تحتاج إلي ضوابط, ففي الخارج يهتمون بمهنة النشر كما تقول كما ان هناك مدارس للناشرين وبها جزء عملي وتدريبي أثناء المعارض, وتقوم هذه المدارس بتدريس قوانين الملكية الفكرية, وفي اتحاد الناشرين المصريين تقوم لجنة تطوير الاداء المهني بعقد دورات تدريبية للناشرين. الفوضي والمستقبل المجهول وفي سياق متصل يعتقد الناشر حسني سليمان أن مجال النشر مفتوح لكل من يريد العمل به, مؤكدا ان كثرة عدد الناشرين والمكتبات شيء مفيد لسوق الكتب, والنشر الذي هو في نهاية الامر مشروع اقتصادي يحتاج إلي خبرة وطموح ودراسة جدوي لكن أحيانا تواجه الناشر صعوبات يمكن أن تؤدي لغلق الدار, واحيانا يكون الاندفاع وراء المكسب السريع هو السبب الاكبر. ومن جانبه قال الكاتب إبراهيم عبد المجيد والذي أنشأ مؤخرا دارا للنشر كان دافعي لإنشاء الدار هو الفراغ لأني غير مرتبط بأي عمل أخر بعد بلوغي سن التقاعد ويري عبد المجيد ان الدار ليست بغرض إصدار كتب فقط لكنها مشروع مستقبلي يتولاه أحد أبنائه وهو مصمم جرافيك. وينتهي عبد المجيد الي الاقرار بأن النشر مهنة يجب أن تكون لها ضوابط رغم أنه مشروع تجاري يخضع لآليات السوق. وبالمثل يري الناشر طاهر البربري أن القول بأن مهنة النشر مهنة من لا مهنة له ينطوي علي ظلم من نوع ما. ولكن يصح أن نقول ان هناك دور نشر ذات مشروع ثقافي ممتد وأخري لا تمتلك أي مشروع علي الإطلاق, ومن ثم نضع السؤال في سياقه الصحيح فالنشر يعاني الكثير من الفوضي, فلا نحن بصدد دور نشر حقيقية كاملة الهيكل الإداري والادائي, ولا نحن بصدد كتاب يمكن الاتكاء عليهم والدفاع نقديا عنهم, ولانحن بإزاء قارئ حقيقي وسوق كتاب حقيقية واضحة الملامح هي حالة من الفوضي العامة, أنتجتها سياقات الفوضي الكاملة في كل مناحي الحياة المصرية في الربع قرن الأخير لابد وأن يعرف الناشر لماذا قام بفتح دار نشر, وحتي لو لم يكن الناشر علي دراية كبيرة بالأمر فيكفي أنه أقدم علي مشروع صعب وهو إنشاء دار للنشر,أظن أننا بحاجة الي دور نشر بشكل أكبر. ويكمل البربري موضحا ينبغي علي مؤسسات الدولة أيضا أن تتولي رعاية دور النشر الجادة كما تفعل مع دور النشر الكبيرة التي تمتلك شبكة علاقات ضخمة تمكنها من اقتطاع إعانات ضخمة من مشروعات مثل مكتبة الأسرة, وفي مصر لو لم تلعب الدولة الدور المنوط بها في رعاية دور النشر الصغير لتضمن استمرارها علي نحو ملائم فإن هذه الدور ستتجه الي استجلاب الدعم من جهات أخري خارجية مجهولة الهوية والأغراض وبالتالي نعرض الحياة الثقافية برمتها لتدخلات غير مرغوب فيها. ويذكر أيضا البربري بدور اتحاد الناشرين فلابد له من دور محترم وفاعل في عملية التنسيق والتقنين, يعني بدلا من الحصول علي موافقة أمن الدولة من أجل الحصول علي تصريح إنشاء دار للنشر, يجب أن أحصل علي موافقة اتحاد الناشرين المصريين في الوقت الراهن يقوم الاتحاد بلا شيء سوي التهديدات بالحبس والغرامة, ووقف النشاط, وتقسيم دور النشر الي كبيرة وصغيرة يعني هوس بفكرة الأفضلية وخرافة التميز. وكما يعتقد البربري فانه لاتوجد في مصر دور نشر كبيرة غير علي مستوي رؤوس الأموال, التي لم تحققها الثقافة ولكن حققتها الغائية, وتلقي الدعم من جهات مستفيدة كثيرة خارجيا وداخليا والآن نقول النشر أصبح مطية ومهنة من لامهنة له لامانع في أن يبحث من لامهنة له عن مهنة, وهل هذا عيب أو حرام؟! هناك دور للنشر والتوزيع( ننعتها اليوم بالكبيرة) أسسها جهلاء وعمال مطابع وباعة صحف, وافاقون ومرتزقة وعملاء أما أنا فمهنتي الكتابة والترجمة والطباعة وأسست دار نشر لكنني أبدا لم أكن من باعة الصحف أو عمال المطابع, اليس الكاتب والمترجم أولي بتأسيس دار النشر, أم تجار المخدرات الذين يبحثون عن كيموفلاج أو طريقة لغسل الأموال القذرة, اليس المثقف المصري أولي بمهنة النشر أم العملاء والتجار ممن صعدوا إلي السطح مرة واحدة ودون سابق إنذار وكأنهم فقاعة بذيئة قفزت فجأة إلي السطح الهاديء لتربكه. ومن زاوية أخري يري أحمد الحسيني أن وجود الانطباع بأن النشر مهنة لا أب لها سببه سهولة اجراءات إنشاء دور النشر وعلي الرغم من ذلك يشير الي ان النشر مهنة محاطة بالمخاطر الاقتصادية والامنية والسبب انه لاتوجد ضوابط لتنظيم عملية النشر لكي تحافظ علي وجود او استمرار الناشرين كما ان عضوية اتحاد الناشرين نفسها ليست ضمانة لحماية الناشر الذي يخوض في بحر من المشكلات. ويضرب الناشر اسلام مصباح مثالا علي واحدة من تلك المشكلات من خلال سرد تجربته ويقول: تعرضت في تجربة نشر روايتي الأولي ليلة واحدة مع دار نشر مزايا لمواقف لاداعي لذكرها لذلك قررت أن أنشر لنفسي, وبالفعل نشرت رواية جديدة لي علي نفقتي ومن خلال دار خاصة بي رغم انني تلقيت عروضا من دور نشر كثيرة قدمت لها اعتذارات في مقدمة الرواية, فالقرار كان بإنشاء دار نشر كي لانقع في نفس الصعوبات التي وجدناها من قبل, ولكي نستطيع التحكم في كل شئ مثل عدد الصفحات وسعر النسخة وأماكن توزيع الرواية وشكل الغلاف وغيره, ويري مصباح ان النشر مهنة مغرية لكنها محاطة بالمخاطر وجانب من الاغراء سببه شهوة الكتاب الصغار في النشر ورغبة الناشرين في خوض مغامرات من غير خبرات حقيقية فمن الممكن أن يحصل أي فرد علي الموافقة الأمنية لإنشاء دار نشر ويصدر كتابين فقط, ولا يستمر مثل معظم من أنشأوا دور نشر في الوقت الحالي واصابتهم صدمات الواقع المليء بصعوبات ترتبط بعملية التوزيع وضعف الاقبال علي القراءة اجمالا وبالتالي ينتهي بهم الامر الي الخروج من السوق بفضائح وخسائر.