أميرة خلقت لتعيش أميرة وتموت أميرة, تقيم عائلتها سرادق عزائها بطول الشارع وعرضه, وتفتح أبواب البيت السبعة لعزاء السيدات. البقاء لله اعترف بأن دموعي تصبح شحيحة جدا في مثل هذه المواقف, لكني بالفعل بكيت لحظة أخبروني بموت أميرة.. تجري أمامي صاعدة الدرج وشعرها الطويل المفرود المفروق بمنتصف الرأس يحلق فوق كتفيها وظهرها وينطلق بجموح مع قفزاتها, وتركلني بقدمها الصغيرة كلما أوشكت علي اللحاق بها, محافظة علي بقاء المسافة بيني وبينها كافية للفوز الذي تعلنه بصيحة عالية حالما تصل لبسطة الشقة: أنا الأووولي. أتوقف فوق الدرجة قبل الأخيرة وأصفق لها فيما يكون أثر ركلاتها في ساقي لم يتلاش بعد, لكني أنساه وأنا أتابع إيقاع ضحكاتها وصيحاتها فأفرح لفرحها بالفوز.. علي. أميرة هي الأولي في كل شيء.. أول من يختطف بسكوتة الآيس كريم من يد البائع وهو يمدها نحونا بتشكيلة متعددة الألوان والطعوم, وأول من يركب حنطور المدرسة في الصباح, وحتي لو تأخرت فلا أحد يجترئ علي الاقتراب من الموضع الذي جعلته موضعها, لا أحد يقدر علي زعل أميرة. لا. ولا حتي صفاء التي كانت أول ما تظهر بوجهها الخالي من التعبير وشفتيها الجافتين من تقشفها في الكلام وشعرها المشدود بقسوة في ضفيرتين طويلتين تبادرها أميرة بتحريف اسمها صفاء صائحة بضحكتها المعهودة: صف.. راااء. يا صفراء يا أم ضفاير. وصفاء الطيبة التي يفاجئها التعليق أو المقلب كل مرة كما لو كان لأول مرة إلي حد أن يصفر وجهها بالفعل تصمت طويلا حتي نحسبها ستنفجر محتدة, لكنها تخالف توقعاتنا وتفاجئنا بانفجارها في الضحك فتثير إعجابنا بتعقلها, الذي لايتجاوز بالطبع إعجابنا بأميرة. أميرة أيضا هي أول.. لا, ليس أول بل هي الوحيدة بيننا التي نجحت في أن تأكل عقل أبيها وتجعله يهديها لنجاحها في الثانوية, رغم أنها أقلنا في المجموع خاتما ذهبيا بفص من الياقوت الأحمر, صغير وبديع التكوين وخليقا بأنامل أميرة الدقيقة, ما جعله ملتصقا بذاكرتي حتي الآن. أميرة جميلة وذكية ومرحة وتنشر سجاياها فيمن حولها فيتناسي الجميع.. أشياءها الأخري. تجذب أباها من كمه في الشارع هاموت لو ما خدتش الفستان ده! فيذعن لشغفها بالفستان الوردي رغم حرجه من أخوتها الأولاد الذين رضخوا لرغبته في التوفير وتنازلوا عن شراء ثياب جديدة للعيد. لكن حرجه لم يستمر طويلا, فبمجرد أن تخرج أميرة الفستان من الورق وتلبسه وتدور تضحك وتغني تنقلب زمجرة اخوتها المتوقعة ضحكا وتسامحا ومباركة. بعد هذا العيد بعشرة أعوام ستموت أميرة, قبل أن تشيب برأسها شعرة واحدة, بعد معاناة مع المرض لا يطيقها بشر, علي حد تعبير أحد أخوتها. عذاب أميرة هو الذي أبكاني لا موتها, فأميرة, كما هي في ذهني أيام طفولتنا وصبانا, خلقت لتلعب وتفرح.. وتجاب أوامرها إتفضلي ناولتني امرأة, تبدو إحدي القريبات, فنجان قهوة بكف ممتلئة بخواتم ذهبية كبيرة وفجة وقريبة الشبه بحشرات موشكة علي الطيران, فأحكمت قبضتي علي الفنجان وأنا أتراجع إلي ظهر الكرسي خوفا من تحرك حشراتها. قهوة مرة.. ما كانت لتشربها أميرة. حدثت نفسي وأنا أتأمل صورة زفافها البديعة علي الحائط. دوقي دي تمتص الشوكولاتة بنهم ولكن علي مهل, ثم تلعق أناملها كي لا تفلت ما علق بها, وبهذه الأنامل البنية تضع في فمي قطعة صغيرة جدا.. وهو أقصي ما لديها من كرم بخصوص الشوكولاتة!! كانت تحب الأشياء الحلوة وتعشق أن تتشبث بما تحب.. باحبه وهاتجوزه حكت لي جارتنا القديمة عن أبيها الذي راح ينشال وينهبد: مفيهوش ميزة يا عديمة النظر. هاتجوزه يعني هاتجوزه. حتي لو هتموتي! لأ يعني لأ. والأب الذي توقع الجيران أن يحرمها من الميراث أو علي الأقل يرفع يده عن نفقات زيجة علي غير هواه, ينتهي به الأمر وقد شرع ببناء شقة لأميرة وزوجها فوق شقته, كي لا تبتعد عنهم.. أميرة.. روح أمها وننوس عين أبيها, ووش السعد.. فقد أتت بعد سنوات طويلة من زواج مجدب ولحق بها نصف دستة من الصبيان, وسعة غير متوقعة في الرزق, وفوق كل ذلك دلوعة أخوتها الخناشير. تبقي لأميرة بعد زواجها نفس غرفتها القديمة بشقة أبيها مع سرير إضافي لطفلها ونفس فوتيه الأنتريه المواجه للتليفزيون, الموضع الذي لايجرؤ أحد علي التعدي عليه.. الفوتيه الذي يبدو أمامي شاغرا. تلف أمها حلة المحشي وترص صواني الباشميل والرقاق, وتأكل أميرة بيدها: بألف هنا.. مطرح ما يسري يمري كان لدي فضول قوي بخصوصها يجعلني أتتبع أخبارها رغم مباعدة ظروف الحياة بيننا, وقبل سنوات عرفت من جارتنا القديمة بمرض أمها وعلمت أن هذا لم يؤثر في مكانة أميرة. أميرة مازالت تترفع عن الوقوف في المطبخ لاعداد الطعام, فقط تأكله بدلال فيما تكون زوجة أخيها الكبير قد قضت النهار بطوله واقفة علي رجليها لتعده. وعاملة إيه بعد ما أتوفت مامتها؟ عادي. أصل مراة أخوها طيبة. طيبة جدا وبعدين ماحدش يقدر يزعل من أميرة تبقي فعلا طيبة جدا مراة أخوها. أعلق بخبث حذر, فتستطرد الجارة ماهي زميلتكم. صفاء. كانت معاكم زمان وبعدين نقلوا في... صف...رااء! يااه! إيوة فعلا طيبة.. طيبة جدا أميرة سيدة البيت بمباركة أمها ثم يفرض الأمر الواقع نفسه, بعد موت الأم, علي زوجة الأخ الطيبة التي انضمت للعائلة وصارت تنادي أميرة: ياعمتي. وهو تقليد ريفي قديم قد يثير دهشة أو سخرية! لكنه يفرض نوعا محددا من العلاقة. استمر احتضارها طويلا, ذكروا أنها في أيامها الأخيرة كانت تزمجر وتصرخ في كل من يقترب منها ولو.. لخدمتها أو مساعدتها. حكت إحدي عماتها للمعزيات عن خطوات تجهيزها للكفن قبيل الوفاة, بداية من قماشة الحنون ومساحته الزائدة عن المعتاد, ما يجعله ليس فقط سابغا يخفي جميع البدن, بل مبحبحا يأخذ اثنين معاها, وفق تعبيرها, ومدللة علي شدة حبها لأميرة, أكدت أنها بخرته سبع مرات. نهضت العمة وابتعدت وظهرت امرأة أخري, لم تجلس بمكان العمة الشاغر, بل اتجهت نحو فوتيه أميرة, الذي بدأ يهتز بمجرد جلوسها عليه كأنه علي وشك الانهيار, ما اضطرها إلي الجلوس الحذر غير المستريح فبدا وجهها مصفرا. استغرقت دقيقتين في التحديق بوجهها كي أتأكد من أنها هي.. صفاء.. أو.. صفراااء, فبالاضافة لأثر السنين الطويلة بدت مختلفة وهي تغطي شعرها بطرحة طويلة سوداء. توقعت من نظراتها الحيادية أنها لم تتعرف إلي, وظللت أترقب فرصة مواتية كي أذكرها بنفسي. ارتاحت قالتها باقتضاب, ثم صمتت طويلا ثم بدأت تحكي وهي تحرك عينيها ورأسها بحماس ملأ قسمات وجهها الذي كان قديما خاليا من التعبير كيف اضطرت إلي خلع ملابسها, لم تبق علي جسدها سوي قميصها الداخلي, وكيف نزلت بكفيها وبكل طاقتها فوق جثمان أميرة بالماء والصابون, مبررة ذلك بطول فترة مرضها وعجزها عن الاستحمام, ورفضها مساعدة الآخرين بهذا الشأن. أخذت, أخيرا, راحتها في الفوتيه, واستبدلت قسمات وجهها بالزهو بالحماس وهي تؤكد إصرارها علي استعمال الكافور: تقبوا وتغطسوا وتجيبوهولي مسهبة في وصف مزاياه للميت ومؤكدة تفانيها في تغسيل أميرة وتضفير شعرها وتبخيرها وتوضئتها علي أكمل وجه وبإخلاص جعلها تدخل الكفن نظيفة بيضاء كالملائكة. انتبهت فجأة للفنجان الممتلئ بيدي, فصاحت: اشربي القهوة اهتز الفنجان بيدي فيما راحت صورتها وهي منكفئة فوق جسد أميرة بكل.. طاااقتها!! تجمد الكلمات فوق لساني وتهز الفنجان أكثر. شكرا قبل أن تسمعني التفتت لأخري أصغر منها كانوا عرفوني, قبل دقائق, بأنها زوجة الأخ الصغير: روحي إعمليلها فنجان مظبوط. قالتها بلهجة آمرة ووجه متورد وهي تشير بيدها إشارة من يعرف أن أمره سيطاع لا محالة, فظهر بإصبعها مع إشارتها خاتم أميرة الذهبي ذو الفص الياقوتي الأحمر. تشاغلت بفتح حقيبتي كي لا تنتبه لتحديقي بيدها أو تسترسل في محادثتي, ولما عادت زوجة الأخ وقدمت لي القهوة ترددت قليلا في قبولها فبادرتني وهي تبتسم ابتسامة واسعة: إشربي. ولا عايزة تزعليني منك؟ ومع ابتسامتها سقطت الطرحة قليلا عن شعرها, لم يكن مضفرا مثلما كانت في الماضي, بل كان مفرودا فوق كتفيها وظهرها ومفروقا بمنتصف الرأس. صحت بوجل وأنا ألتقط الفنجان وأتجنب النظر لها كي لا تتذكرني: لا لأ.. إعملي معروف.. ماتزعليش مني. سكبت القوة المرة في جوفي دفعة واحدة دون أن أنظر نحوها ثم أسرعت نحو الباب. عزة رشاد: طبيبة وقاصة لها مجموعتان قصصيتان: أحب نورا أكره نورهان ونصف ضوء, ورواية ذاكرة التيه