مانشرته بعض المواقع السلفية علي الشبكة الالكترونية اثناء مرض د. نصر حامد أبوزيد وفي أعقاب رحيله, لايكشف عن تنطع القائمين علي هذه المواقع والمسئولين عنها فقط, بل يكشف أيضا عن انحطاط أخلاقي وفكري, فمن يشمت في الموت ويفرك يديه فرحا بسبب مصاب كهذا ليس إنسانا من لحم ودم. وقد شاءت الظروف أن أكون شاهد عيان علي مواقف الراحل الكبير في الغرب, وبالتحديد في ألمانيا عام1996, أي في العام نفسه الذي كان قد صدر فيه الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته, وبالتالي ارتداده عن الاسلام, أي ببساطة اهدار دمه بحيث يمكن لأي صبي جاهل أن يذبحه مثلما حاول صبي آخر ذبح نجيب محفوظ وينال مكانا في الجنة! أود أن أؤكد في البداية أنني لست معنيا بإثبات إيمان الراحل واجتهاده, فهو منشور في دراسات وكتب للثقافة, لكن أكثر الناس لايقرأون, وإذا قرأوا بضع صفحات فهم يفتشون بين السطور وينبشون بأظافرهم في عقولنا باحثين عما يشفي غليلهم لإهدار دمنا من ناحية, وإحكام مناخ الارهاب وتجريم الاجتهاد وحرية التعبير والتفكير واعلاء قيم المجتمع المدني والدستور من ناحية أخري. كما أنني لا أنوي التعرض لتلك الحقيقة الساطعة والغائبة عن الكثيرين, وهي أن المعركة الحقيقية ليست بين نصر أبوزيد وخصومه, بل هي بين المجتمع المدني والدستور وخصومه, بين العقد الاجتماعي المبرم بين المواطنين والدولة. بدلا من كل ذلك سأقوم بسرد الحكاية التالية: حدث أن تلقيت دعوة من أكاديمية لوكوم بها نوفر بألمانيا لحضور ندوة الأدب وحرية وسائل الاعلام وحقوق الانسان في المجتمعات الاسلامية في الفترة من31 مايو وحتي2 يونيو1996. ولم أكن قد التقيت الصديق الراحل نصر أبوزيد منذ سفره في أعقاب الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته واهدار دمه, ويعرف الجميع ان سفره لم يكن سوي نفي دائم. تلازمنا علي مدي الأيام الثلاثة التي استغرقتها الندوة. وكانت أكاديمية لوكوم قد خصصت لكل ضيف من ضيوف الندوة حجرة صغيرة أشبه بالزنزانة, لكنها زنزانة نظيفة جدا في حقيقة الأمر, وشهدت سهراتنا ونقاشاتنا المتواصلة, ومنحتني هذه الفترة التي قضيتها مع نصر معني أن تكون مطاردا منفيا من وطنك بسبب دفاعك عن حرية هذا الوطن. وكانت أكاديمية لوكوم قد حشدت عددا واسعا من أكاديميين ومفكرين وأدباء بارزين ينتمون لتيارات فكرية متباينة وبلدان مختلفة مثل مصر والمغرب وتونس والأردن وفلسطين مثلها قس متنور من بيت لحم واندونيسيا وبنجلاديش, الي جانب أكاديميين بارزين من مختلف جامعات أوروبا والولايات المتحدة. وكان نصر المتحدث الرئيسي في محور الامكانات النقدية, التي يشملها الدين المتنور, أما البحث الذي ألقاه فكان يحمل عنوانا لافتا هو: قصة أبوزيد وطرح في بدايته قضية أساسية هي الاجابة عن السؤال التاريخي: ما هي العلاقة بين حرية البحث العلمي وحرية الفكر بشكل عام والموقف السياسي واستخدام الدين علي أساس هذا الموقف السياسي ؟ تحدث نصر عن الصحوة الاسلامية في العالم الاسلامي وحالتها الخاصة في الواقع المصري, والتي بدأت تاريخيا كرد فعل مباشر علي الغاء الخلافة في تركيا عام1924, وعقب هذا الحدث جرت المعركة الشهيرة حول كتاب الشيخ علي عبد الرازق الاسلام وأصول الحكم, والذي يؤكد أنه لايوجد شيء إسمه النظام السياسي الاسلامي, بل التجربة السياسية في الدولة الاسلامية, وهي تجربة قائمة علي الاختيار والتجربة والخطأ ولا علاقة لها بالاسلام من حيث هو دين شرعي منزل, ودارت هذه المعركة في سياق الغاء الخلافة, ومحاولة اكثر من حاكم عربي ومسلم منذ الشريف حسين وحتي الملك فؤاد أن ينصب نفسه خليفة ليشغل المقعد الروحي الرئيسي لكل المسلمين منذ سقوط الخلافة. في خضم هذه الظروف صدر كتاب علي عبد الرازق, وكأنه طلقة تصيب كل هذه المشروعات في مقتل, وأضاف نصر أبوزيد أن عبد الرازق أنشأ خطابه من داخل أرض الإسلام وباعتباره شيخا أزهريا, واعتمد علي تحليل القرآن والسنة والتراث الاسلامي المرتبط بعلم الكلام, وانتهت المعركة بفصل الشيخ من الأزهر ومن القضاء معا. وفي هذا السياق يمكن اضافة معركة كتاب طه حسين الشعر الجاهلي بل وفي السياق نفسه نشأ الأخوان المسلمون الذين كان المطلب الأول لأجندتهم استعادة الخلافة الاسلامية.. والحال أن الظاهرة الاسلامية هي رد فعل لظاهرة سياسية, وهي لذلك محملة منذ اللحظة الأولي بالسياسة. صحيح كما واصل أبوزيد انها نشأت كحركة إصلاح ديني, ومع تطور الوضع السياسي تحولت من الايديولوجيا الي الارهاب, وتم هذا علي نحو يشبه ما جري في افغانستان في السبعينيات, وحرب1948 ضد اسرائيل شارك فيها الاخوان وعادوا بأسلحتهم, وكأن أرض فلسطين أرض تدريب, مثلما كانت أرض أفغانستان بالنسبة للأصوليين المعاصرين, وبعدها انشئ الجهاز السري, واستولي الضباط الاحرار علي السلطة, وعندما ألغوا الديمقراطية وحظروا الأحزاب, أبقوا علي الاخوان فقط باعتبارهم حركة دينية مما يدل علي طبيعة العلاقة بين النظام الجديد والاخوان. وفي هذا السياق أيضا حسبما أوضح الراحل عام1996 جرت وقائع معركة محمد أحمد خلف الله في الجامعة, وانتهت بفصله منها والغاء رسالته للدكتوراه, بسبب محاولته تطبيق منهج الشيخ أمين الخولي, الذي كان امتدادا لمنهج الامام محمد عبده, باعتبار ان المقصود بالقصص القرآني العظة والاعتبار, وليس رواية التاريخ. وانتهي نصر الي أن الخلط بين الموقف السياسي واستغلال الدين, كان معاصرا لكل القضايا الفكرية منذ علي عبد الرازق وحتي محمد خلف الله مرورا بطه حسين, والأمر نفسه تكرر مع نصر أبوزيد, لأن القضية ليست ترقية أستاذ جامعي, بل قضية فكرية في الأساس. وإذا كان البحث العلمي في بلادنا تتدخل الظروف السياسية لقمعه, أو يتدخل الدين, فإن قضية أبو زيد تدخلت فيها الظروف السياسية والدين معا. تلك هي الأفكار الأساسية وأنا هنا أنقل عن أوراق قديمة التي قدمها أبوزيد في البحث الذي ألقاه, ولم يبع شيئا للغرب, بل قدم الأفكار نفسها التي سبق له أن نشرها في كتبه في مصر. علي أي حال, في اليوم التالي جاءت الكاتبة البنغالية تسليمة نسرين, التي تعرضت للاضطهاد في بلادها وعدوان الأصوليين واضطرت للجوء السياسي كانت مداخلتها في الندوة تحمل عنوان لغة الشعر ونصوص القانون وبدأت في قراءة الاعلان الدولي لحقوق الانسان الذي أصدرته الأممالمتحدة فقرة فقرة, وتقارن بين كل مادة من مواده, وبين ما جاء في القرآن والأحاديث الضعيفة, وانتهت الي أنه إذا كان الغرب يفرق بين الاسلام كدين والأصوليين فإنها تعتبرهما شيئا واحدا. ولم يكن مطلوبا من نصر أن يعلق, كما ان المصريين المنتمين للاخوان المسلمين والمقيمين في أوروبا, والذين جاءوا من مسافات بعيدة خصيصا للمشاركة في الندوة لم يعلقوا علي ما قالته تسليمة خوفا علي وضعهم وإقامتهم في الغرب. وحده نصر أبوزيد لم يحتمل هذا الهذر وطلب الكلمة وتوجه إلي تسليمة نسرين قائلا: لايستطيع أن يتهمني أحد بأنني ضد حريتك لأنني شخصيا مضطهد بسبب حرية الرأي. وأن الوحيد القادر علي ان اقول أن كل ما ذكرته خطأ.. لقد تعاملت مع نص حقوق الانسان باعتباره نصا مقدسا, بل أكثر قداسة من القرآن. لماذا لم تنتقدي مثلا التطبيق الغربي لحقوق الانسان وهو تطبيق منحاز ؟ هل من المعقول أن هنتنجتون يتكلم عن الاسلام باعتباره حضارة, بينما تتكلمين أنت عنه باعتباره تخلفا, متناسية أن الإسلام أنتج حضارة استمرت مزدهرة عدة قرون, لقد وضعت النصوص وتفسيرها في سلة واحدة دون أن تملكي وعيا تفرقين به بينهما. وانتهي نصر الي القول: كنت أفضل أن تقرئي قصائدك فقط, فأنت لا علاقة لك بغير الشعر, وليس من المناسب أن ننسج خطابنا علي النحو الذي يرضي الغرب. وهكذا, فإن نصر المنفي والمبعد والمطارد والمهدد رفض أن يبيع البضاعة الفاسدة للغرب, وهاجم تسليمه بضراوة دفاعا عن مبادئه وقيمه, لذلك فإن تنطع الأخوة القائمين علي بعض المواقع السلفية والبشري التي زفوها ب هلاك نصر أبوزيد علي حد تعبيرهم هي سقطة أخلاقية تليق بهم, وماداموا يشمتون في الموت, فإنني لا أطالبهم بقراءة هذه السطور, بل أكتبها من أجل روح نصر أبوزيد الذي تحمل الكثير كما يليق بفلاح مصري دافع عن القيم التي يؤمن بها حتي النهاية.