لقد غيب الموت عنا يوم الاثنين الماضي رجل الفكر الديني الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي كثر عليه الجدل حتي بعد أن فارق الحياة. إن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو ليس الرثاء أو التمجيد ولا الهجوم أو الاتهام بالكفر كما يفعل الكثيرون الآن عبر شبكة الإنترنت, ولكن أود أن أوضح بعض الجوانب الإنسانية التي عرفتها عنه عن قرب أنا وكثير من الطلاب الأزهريين الذين أتوا إلي جامعة لايدن للدراسات العليا في الدراسات الإسلامية علي مدي السنوات العشر الأخيرة. وبعيدا عن أي تحليلات أو نقاشات فكرية حول دراساته القرآنية, يكفي أن أذكر شيئا واحدا هو أن هذا الرجل لم يكن يضيق صدرا بمن يخالفه في الرأي من تلامذته وكم اختلفنا معه حول آراء كثيرة, وكثيرا ما كان يبتسم فرحا حين يرانا من حوله كأزهريين نحقق نجاحات باهرة في أعرق جامعات أوروبا. لقد كان شهر رمضان يجمعنا دائما به في بيته المتواضع علي المائدة الرمضانية التي كانت تعدها زوجته الفاضلة الدكتو ابتهال يونس, وكانت دائما عادة متصلة تجمع الطلاب المصريين عنده, وذات مرة توجه أحد السفراء المصريين في لاهاي بدعوته علي الإفطار في السفارة المصرية مع بعض السفراء ورجال الأعمال العرب, وذلك في يوم اجتماعنا نفسه للإفطار في منزله, وبدل من أن يعتذر لنا, اعتذر للسفير بكل لطف قائلا: الأولاد معزومين عندي النهاردة يا سعادة السفير. إن المواقف الإنسانية والذكريات الخاصة معه لن أنساها وستظل محفورة في عقلي أبدا, فكثيرا ما كان يأتي لزيارتنا من قرية أوخستخييست التابعة لمدينة لايدن أحيانا ماشيا إلي منزلنا, ويجلس معنا في البيت ويضع ابنتي جمانة علي ركبته يغني لها أوبريت الليلة الكبيرة وهي تداعبه ويداعبها كجد حنون لها, وحينها نجلس يستدعي أيام طفولته في قريتة قحافة ووالدته العظيمة والتي أثرت في حياته كثيرا كما كان يقول دائما, وكان يضحك كثيرا حينما أذكره بمواقف مماثلة حدثت لي في قريتي أيضا, قائلا لابنتي النصف هولاندية: انتي بنت فلاح مصري. وبجانب هذا الجانب الأبوي لم يكن قط يحمل ضغينة لأحد ولا حتي مع خصومه, وهو الذي تولي الدفاع عن الدكتور عبد الصبور شاهين في وقت أزمته مع كتابه أبي آدم عليه السلام, وكثيرا ما كان يردد لي قائلا: إن أحسن شئ تفعله مع خصومك هو أن تدعوهم لتناول فنجان قهوة وأن تتحدث معهم. وأما عن قضية الردة فلم يكن يتحدث عنها كثيرا في السنوات الأخيرة, وقد أخبرني ذات مرة أنه رفض طلب القاضي في ساحة المحكمة أن ينطق بالشهادة ليثبت إيمانه وتنتهي القضية قائلا: لو فعلت أنا هذا لأوحيت بأنني لم أكن مؤمنا قبل هذا, ولكن لما وطأت قدماه أرض ألمانيا بعد القضية مباشرة, وقبل أن يبدأ محاضرته في قاعة مسرح كبير حضرها الآلاف, بدأ كلامه بقولة: لا إله إلا الله, وسط دهشة الحاضرين, معلنا للجميع أنه يعلنها علي الملأ أنه ما زال مؤمنا بالله ولا ينتظر حكما قضائيا لإثبات ذلك. لقد كان رحمه الله يحمل بين صدره قلبا كبيرا, وخلقا لم أر مثله, ومتصوفا علي طريقته, أسأل الله له الغفران والرحمة ولأسرته العزاء والسلوان. د. عمرو رياض أستاذ مساعد الدراسات الإسلامية جامعة لايدن