كنا خمسة مصريين ممثلين لصحف الاهرام والمصري اليوم والخليج الإماراتية والرأي الكويتية ونصف الدنيا, وسادسنا قناة العربية. كان المقصد الدنمارك تلك الدولة التي طالما التزمت الحياد في جميع الصراعات التي عصفت بالعالم وبالقارة الاوروبية العجوز, حتي جاء رسام كاريكاتير لكي يكسر هذا الحياد بشكل غير رسمي منفرد بنشره الرسوم المسيئة لمليارات من المسلمين في العالم, ولما يقرب من5% من مواطني بلاده من المسلمين من أصل تعداد5,5 مليون نسمة. الرحلة التي نظمها معهد الحوار الدنماراكي المصري كان منطقة نوبرو في قلب كوبنهاجن هي من أقدم أحياء المدينة, وهي تعتبر الوجه غير النوردي للدنمارك, أو بمعني آخر الوجه العربي الإسلامي لهذه الدولة الاسكندنافية, حيث يقطنها عدد كبير من المهاجرين, وحيث يوجد مقر جريدة الأخبار الي تصدرها مؤسسة بيت الإعلام العربي. وصحيفة الأخبار يرأس تحريرها محمد حمزة وهو عراقي دنماركي هاجر إلي الشمال20 عاما ويشارك في تحريرها عدد من المهاجرين العرب وأبنائهم مثل فيراس ونضال أبو عريف( من أصل فلسطيني) وعيسي عبدة( من أصل مصري) وآخرين. الجريدة75% من صفحاتها تصدر بالعربية والباقي بالدنماركية, وهي تستهدف في المقام الأول الشباب العربي الذي نشأ في الدنمارك, ويبلغ توزيعها خمسة آلاف نسخة, في حين أن عدد الزائرين لموقعها ألف زائر يوميا. أما عن التمويل, فيقول حمزة: الدولة تمول المشروعات الإعلامية الجادة باعتبار أن ذلك التمويل يأتي من دافعي الضرائب ونحن المهاجرين العرب منهم ولكن بشرط أن يبدأ المشروع بالجهود الذاتية لإثبات الجدية. ويوضح رئيس التحرير أنه في الوقت ذاته, وبجانب الدعم من جانب الدولة, فإن المؤسسة التي تصدر الجريدة تمول نفسها من خلال أبحاث تقوم بها لحساب مؤسسات صحفية عربية كما أنها تنتج أفلاما وثائقية, مشيرا إلي أن الجمهور العربي المستهدف في الدنمارك يبلغ76 ألف مهاجر وأبنائهم هم تعداد الجالية العربية في البلاد, وأن الجانب الأكبر من الجالية من الشباب ممن لايعرفون أوطانهم الأصلية. ولتعدد أصول هذه الجالية, جاء تعدد جنسيات العاملين في الصحيفة, التي تعد منبرا لجميع التيارات داخل الجالية وليس داخل الوطن العربي! وحول ما يتردد بشأن وجود استهداف للجالية العربية, ويؤكد الرجل عدم صحة ذلك, مشيرا إلي أن الدنمارك علي صغرها, فإنها تحتضن115 مسجدا وزاوية, كما أنه بالرغم من التمويل الحكومي للصحيفة فإنه لا توجد أي سيطرة أو توجيه عملي علي الصحيفة, فالدنماركي العربي فهم اللعبة جيدا, وهي أنه طالما يدفع الضرائب, فإن من حقه الدعم غير المشروط. سألت الرجل عن نوعية القضايا التي تركز عليها الصحيفة, فأجاب بأنها القضايا الداخلية للجالية العربية والمسلمة, وأنه يتم تجنب القضايا العربية عربية, فكان لابد من سؤال الرجل عن ذلك القصور البادي في تعمد إغفال بعض القضايا الخارجية التي تتعلق بالعالمين العربي والإسلامي والتي تتداخل بها مواقف دول غربية مثل الدنمارك, مثل مشاركتها ضمن التحالف الغربي العسكري في أفغانستان! يقول الرجل إنه لا يتم إغفال مثل هذه القضايا, ولكن التعرض لها من منطلق دنماركي مثلما يحدث عند وقوع خسائر بشرية في صفوف القوة الدنماركية. ولكن ماذا عن قضية المشاركة من أساسها, وماذا عن مدي عدالة القضية, هكذا سألت الرجل الذي اكتفي بالابتسام قائلات:.. في أضيق الحدود...! وبالرغم من أهمية الدعم الحكومي للإعلام العربي الدنماركي المحلي, إلا أنه قد يظن البعض أن المسألة لا تعدو تلك المشاركة التي لا يتعدي تأثيرها حدود الجالية العربية المسلمة في البلاد, ولهؤلاء, نسوق لهم نموذجا للمشاركة السياسية المتاحة أمام الجالية لكي تأخذ نصيبها في صياغة مستقبل لوطنهم الجديد بالرغم من حداثة وجودهم في تلك البلاد. عمدة عربي باسكندنافيا! فأحد جوانب حوار الحضارات الهادف إلي اندماج الجالية العربية والمسلمة في الدنمارك يتمثل في إتاحة الفرصة للمهاجرين لتبوؤ مناصب رفيعة وفتح الطريق لهم لتولي مواقع قيادية في المستقبل. من بين هؤلاء ربيع أحمد ذلك الفلسطيني الذي ولد في منتصف السبعينيات في لبنان لعائلة من اللاجئين الفلسطينيين, وذلك قبل أن يهاجر للدنمارك منذ19 عاما ليحصل علي درجة الماجستير في القانون, ولكي ينتخب مؤخرا عمدة لمدينة أوروهس, وهي ثاني أكبر مدينة بعد العاصمة كوبنهاجن. رأيت العمدة للمرة الأولي معتليا منصة في قلب المدينة ليلقي كلمة بمناسبة يوم الدستور الذي تصادف ذلك اليوم حيث أكد ضرورة تمسك المواطن بحقوقه بنفس قدر تمسكه بالواجبات! وأكد العمدة العربي في كلمته أنه من بين هذه الحقوق الحق في التظاهر بمجرد إبلاغ السلطات ومن دون الحصول علي إذن منها, بالإضافة إلي التحذير من احتمال أن تمس الدولة بالإعانة المقررة لكل طفل, والتي تبلغ ثلاثة آلاف كرونا الكرونا تعادل في القيمة الجنيه المصري علي طفلين فقط, مطالبا بالترشيد من خلال قصر هذه الإعانة علي طفلين فقط في حالة الأسرة المقتدرة ماديا فقط! تحدثت مع العمدة الذي قال: لم يدر بذهن تلك العائلة من اللاجئين الفلسطينيين عندما هاجرت من لبنان أنها ستستقر في الدنمارك, وبالرغم من أن الأوراق الرسمية تذكر أنني مهاجر من لبنان, إلا إنه في جميع المهام الرسمية التي أشارك بها يشار لي كوني دنماركيا, في حين إنني شخصيا أقدم نفسي دائما علي أنني فلسطيني الأصل. ويتذكر العمدة الصعوبات في البداية ومن بينها تعلم اللغة الدنماركية, بالإضافة إلي الاصطدام بواقع أنه لا أحد يعترف بوجود سابق لفلسطين تاريخيا, في حين أنه من بين التحديات الحالية التي يحاول أن يزللها, الوصول الي نسبة95% من أبناء المهاجرين في المدينة التي يرأس عموديتها من الحاصلين علي شهادات جامعية, حيث تبلغ النسبة حاليا5% فقط, حيث أن كثيرا منهم قدموا من مناطق صراع واضطرابات, ويوضح الرجل, أنه بحكم خلفيته القانونية, فإنه يقدم استشارات قانونية للمهاجرين للتعرف علي حقوقهم. أيضا, فإنه من بين التحديات تلك المفاهيم الخاطئة التي يبرزها الإعلام, وتركيزه علي بعض الممارسات السلبية وتصويرها علي أنها ظواهر. وحيث إن مدينة أوروهس هي ثاني أكبر مدينة في الدنمارك, ويقطن بها نسبة معتبرة من الجالية العربية والمسلمة, فإنه قد يتبادر للذهن أن الكتلة العربية المسلمة هي التي أوصلته لمنصبه هذا, وهو ما أكده العمدة العربي ونفاه في نفس الوقت! يقول الرجل إنه لاينكر فضل هذه الكتلة من الأصوات, إلا إنه أكد أنه حصل علي نسبة مقدرة من أصوات الدنماركيين الأصليين, وهو مايشير الي عدم وجود تربص, وأنه يعتزم الترشح في الدورة القادمة للبرلمان عن الحزب الليبرالي,آملا في أن ينضم الي النائب العربي الوحيد في البرلمان حاليا. الشاهد, أن مايلفت النظر فيما يتعلق برد فعل الجالية المسلمة في الدنمارك إزاء الرسوم المسيئة, أنه جاء عقلانيا ومتزنا, وهو مايدلل علي بعض الأشياء التي أوضح العمدة العربي بعضا منها ومن بينها أنه لايوجد تطرف إسلامي علي المستوي الحركي في البلاد ولكنه تطرف فكري ومحدود, وهو الأمر الذي يتطلب عقد لقاءات دورية بين مسئولي أجهزة المخابرات والقيادات الإسلامية للعمل علي إصلاح هذه الأمور مشيرا الي إنه دائما ما يؤكد المسئولين أن التطرف ليس بضاعة عربية ومسلمة فقط, وإنما هو بضاعة غربية أيضا. وأوضح أن مايميز السلطات في الدنمارك هو أنها لاتستخدم العصا في التعامل مع هذه القضايا, كما أنها تشرك العديد من الأطراف في الإصلاح, بمن فيها المواطنون أنفسهم. وحول الرسوم المسيئة, أكد الرجل أن تدخل الحكومات العربية والإسلامية جاء بنتائج سلبية أكثر منها إيجابية, وأن الأمر كان سيختلف في حال إذا ما تركت القضية لمسلمي الدنمارك. وكشف الرجل عن أن الرسم لم يمثل خطرا في حد ذاته, وإنما الخطر كان يكمن في التعليق الذي كتب تحته والذي جاء كالتالي: علي أي أصحاب دين أن يكونوا مستعدين للإهانة, وهو التعليق الذي يعد انتهاكا للدستور والقانون الدنماركي, وأنه أوضح ذلك في مقابلة مع رئيس تحرير صحيفة يولند بوسطن التي نشرت الرسم. وبالرغم من أن اللقاء الذي جمعني مع السيد إريك برجير رئيس تحرير الصحيفة اليومية المسيحية الوحيدة في الدنمارك كريست داجبلات الدنماركية كان منفصلا عن اللقاء الذي تم مع العمدة العربي, إلا أن الإثنين اجتمعا علي تراجع معدلات الإنجاب في الدنمارك, وهو الذي أصاب المجتمع بالشيخوخة, وبالتالي, فإنه مجتمع في حاجة متزايدة للمهاجرين, مما يجعل من برامج الاندماج في منتهي الأهمية. وفي هذا السياق فإن الأتراك يحتلون المركز الأول علي رأس قائمة الجالية المسلمة بالدنمارك يليهم الباكستانيون ثم الفلسطينيون فالعراقين, ثم بشكل أقل جنسيات عربية أخري. ويبدو أن أزمة الرسوم المسيئة مازالت تسيطر علي أفئدة المسئولين في الدنمارك بشكل أكبر مما تشغل أفئدة المسلمين في خارج البلاد, وقد تبدي ذلك في أن أول مانطق به موجنز بلوم مسئول برامج الشراكة العربية الدنماركية في وزارة الخارجية أن قال أن برنامج الشراكة بدأ في عام2003 ثم تعرض لأزمة عنيفة في أعقاب نشر الرسوم المسيئة في2006 إلا أنه بعد جهود مكثفة بدأت الأمور تعود لنصابها, لكي نستشعر نحن وشركاؤنا العرب أهمية استمرار برامج هذه الشراكة. قلت للرجل: بعض من هذه البرامج المهمة تعمل علي زيادة الاحترافية للعاملين في مجال الصحافة, ألا ترون أهمية إدخال إسرائيل في هذه البرامج لزيادة احترافية الصحافة الإسرائيلية بما يقلل من الصور النمطية السلبية والعدوانية غير المؤسسة التي يروجونها عن العرب, وخاصة أنكم تتحدثون عن تفادي صدام الحضارات, هذا المفهوم الذي يربط فيه الإسرائيليون أنفسهم بالغرب فيما يروج بصدامه مع العالم الإسلامي؟! استغرق الأمر ثواني قبل أن يجيب الرجل بقوله: نحن مهتمون بالعالم العربي فقط. إلا أن مستشار البرنامج وهو دنماركي من أصل مغربي زاد علي ذلك بقوله إنه لايمكن تجنيب جزء من ميزانية البرامج لأخري تنفذ في إسرائيل, إلا إنه لم يرد علي سؤالي بالموانع في تخصيص ميزانية منفصلة لها؟! وزارة الحرية! وقد يجادل البعض بأن ماورد علي ألسنة المسئولين الدنماركيين هو مجرد كلام نظري بعيد عن التطبيق الا أن تلك الحلقة النقاشية التي ضمت عددا من الشباب من مختلف الأقطار العربية مع سورين بند وزير التنمية الدولية الدنماركي في ختام برنامج تفاعلي للحوار, أكدت لي أن كلام المسئولين أبعد من أن يكون نظريا فقط. الوزير مصر علي ألا يسمي وزارته باسمها, وإنما يسميها وزارة الحرية علي اعتبار أن التنمية بمفهومها الشامل تحقق الحرية للمواطن في أي بقعة في الأرض, وهو المفهوم الذي نتمني أن يسود العالم. يقول الوزير أن البرلمان أقر مؤخرا استراتيجية لوزارته تركز علي تنمية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في الدول التي تتعاون معها الدنمارك, وهي القيم التي تعد من أهم مواريث دولته الاسكندنافية, وأوضح الرجل إنه خلال جولاته في دول مثل زيمبابوي وتنزانيا ونيبال تأكد من أن نقطة البداية يجب ان تكون الديمقراطية واحترام البشر, وهو الأمر الذي سينعكس بشكل مباشر وفوري وإيجابي علي الاقتصاد. مشاركة مغربية طرحت علي الوزير سؤالا بشأن مايبدو من تناقض بين القيم التي يدعو لها هو والغرب وبين عدم التدخل لوقف الأنظمة الديكتاتورية في بعض دول العالم الثالث عند حدها, فقال الرجل: وزارتي تتعامل مع الشعوب وليس الأنظمة, وعلي هذه الشعوب أن تسعي بنفسها نحو تحقيق الديمقراطية التي هي ليست أمرا هينا, فما حدث من تحرير لألمانيا من النازية بقوة خارجية لن يتكرر مرة أخري ويستطرد الوزير قائلا: في الديكتاتوريات من الأسهل حسم الكثير من القضايا علي العكس من الديمقراطيات, وهو الأمر الذي يمكن أن نراه في أزمة الرسوم المسيئة, فهل الذي أساء هنا هو الغرب بأسره أم فرد؟ بالطبع, هو فرد لا أستطيع طبقا للقانون هنا حسابه, كما لا أستطيع أن أحاسب آخرين علي الإساءة للسيد المسيح, ولكن المؤكد أن رد الفعل الخارجي علي الأزمة, أخاف الرأي العام هنا, والحل يتمثل في مثل هذا الحوار الذي نشارك فيه. وبالرغم من كل التحفظات التي يمكن أن تتبدي لنا علي الحرية بالمفهوم الذي ساقه الوزير في حواره مع المشاركين من الشباب العرب والتي تصل الي حد عدم القدرة علي محاسبة من يسيء للأديان والرسل, إلا أنني استشعرت أنه حديث غير مفتعل, والدليل علي ذلك ما رأيته من مظاهرات حاشدة في قلب العاصمة كوبنهاجن قام بها الدنماركيون سواء من أصول تركية أو شرق أوسطية أو أصلييين اسكندنافيين مناصرة للفسطينيين في مأساتهم وحصارهم واحتجاجا وتعريضا بالعدوان الإسرائيلي الأخير علي سفن الإغاثة المتوجهة الي قطاع غزة. فمال الدنمارك التي تقع في أقصي شمال القارة الأوروبية, ومال فلسطين الواقعة في المشرق العربي؟! ولماذا يعتلي سياسيون دنماركيون من بينهم هولجر نيلسون النائب في البرلمان عن الحزب الاشتراكي منصة في أكبر ميدان في العاصمة لكي يلقوا كلمات تدعو الشركات والحكومة الدنماركية لمقاطعة إسرائيل؟ إنها قيم الحرية وحقوق الإنسان التي لاتعرف الحدود ولا الأعراق ولا تباين الثقافات هي الحرية التي يعليها صحيح الدين, فلا إسلام من دون حرية واحترام للبشر هذه هي الدنمارك, برسوم بعض أفرادها المسيئة التي يجب أن نحتج عليها ونعمل علي وقفها بشكل حضاري, وبقيمها الحضارية الرفيعة التي يجب أن نتبناها..