كثيرة هي الجهود ومحاولات الوساطة التي تقوم بها أطراف إقليمية ودولية من أجل التوصل إلي تسوية سلمية للصراع في الشرق الأوسط. ولا مبالغة في القول إن صراع الشرق الأوسط قد شهد فيضانا في الخطط والمبادرات ومشروعات التسوية السياسية, كما صدرت بصدد ذلك عشرات القرارات من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة, أيضا فقد تم توقيع العديد من الاتفاقات وخطط التسوية, ورغم كل ذلك لا تزال المنطقة بعيدة عن التسوية السياسية الحقيقية التي يمكن أن تقود إلي سلام شامل. ويري البعض أن تعقيد وصعوبة التسوية السياسية الصراع العربي الإسرائيلي تأتي من طبيعة هذا الصراع الذي يندرج ضمن ما يسمي بالصراعات الاجتماعية الممتدةProtractedSocialConflict- وهي نوعية من الصراعات تسودها لغة' صراع الوجود لا الحدود', ويدخل البشر أو السكان كأطراف مباشرة في هذه الصراعات التي تتسم بالحدة والتعقيد, وتضرب الصراعات بجذورها في عمق التركيبة السكانية, وتتبلور صور للعداء بين البشر, والبعض يبحث عن أسس للانقسام والعداء, وعادة ما تتم العودة فيها إلي عوامل الانقسام الأولي وعلي رأسها العرق والدين. وأن تسوية هذه النوعية من الصراعات تتطلب وقتا أطول وتتم علي مراحل زمنية طويلة. وبالفعل يعد الصراع العربي الإسرائيلي وتحديدا علي المسار الفلسطيني- صراعا اجتماعيا ممتدا, فالشعب الفلسطيني وهو صاحب الأرض, تم طرده وتشريده, ورأي الوافد من الخارج أن' فلسطين أرض بلا شعب' وجب منحها لشعب بلا أرض, الشعب اليهودي. وعلي الرغم من تعدد محاولات التسوية السياسية وصدور عديد من القرارات الدولية التي تحدد أسسا للتسوية السياسية, فإن أيا من هذه المحاولات لم تنجح, كما لم يتم تطبيق أي من قرارات الشرعية الدولية. وعلي الرغم من كل ذلك فإنه قد تمت تسوية عشرات الصراعات التي تندرج ضمن' الاجتماعي الممتد', مثل الصراع الصومالي الاثيوبي, والاثيوبي الاريتري, أيضا الصراع في البوسنة وكوسوفو وايرلندا الشمالية. صحيح أن بعض هذه التسويات لا تزال تتعرض لانتكاسات وتتطلب توافر عوامل ضغط دولي وجود عسكري دولي من أجل تثبيت الاتفاقات ومواجهة محاولات الخروج عليها, إلا أن الصحيح أيضا أن جهود التسوية نجحت في ضبط هذه الصراعات وبدء عملية طويلة المدي للقضاء علي وراسب الصراع عبر خطط طويلة المدي تحرص علي غرس ثقافة السلام والتعايش لدي مختلف أطراف الصراع. وغني عن القول أن مثل هذه الأمور تبدأ بعد التوصل إلي اتفاقات للتسوية السياسية تقف في منطقة وسط بين مطالب الأطراف المتصارعة. ومن خلال دراسة واسعة لنمط التسويات السياسية التي تمت في البوسنة وايرلندا ثم كوسوفو, تم التوصل إلي العوامل الرئيسية المحددة لتسوية هذه الصراعات والتي يمكن اعتبارها بمثابة شروط مسبقة لتسوية هذا النمط من الصراعات. وتتمثل هذه العوامل في ثلاثة هي: 1 إقرار طرفي الصراع باستحالة الحل عن الطريق القوة العسكرية, أي أن أيا منهما لن يستطع إيقاع الهزيمة العسكرية الشاملة بالطرف الآخر, والتي تعني القضاء عليه أو علي طموحاته. 2 توافر القيادات السياسية المستعدة للتسوية السياسية لدي الأطراف المتصارعة. 3 غياب الانحياز من جانب القوي الدولية لطرف من الأطراف, أو توزع الانحيازات الدولية علي النحو الذي يحيدها. 4 توافر الرغبة لدي قوي دولية فاعلة في التوصل إلي تسوية سياسية لهذا الصراع. ويعد هذا العنصر مهما للغاية, ولابد أن يكون مرتبطا بالعنصر السابق الخاص بالانحياز, وفي هذه الحالة يمكن أن يبدأ المجتمع الدولي, أو القوي الدولية عملية سياسية من أجل التسوية, حتي ولو اقتضي فرضها استخدام القوة المسلحة ضد الطرف الرافض, علي غرار ما جري في كوسوفو مثلا. وعودة إلي الصراع في الشرق الأوسط, نجده يعاني من غياب العناصر اللازمة لبد تسوية سياسية حقيقية تقود إلي سلام شامل. ويشمل الغياب معظم العناصر المطلوب توافرها علي النحو التالي: 1 الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وبعد اتفاقية السلام مع مصر, لا تزال تؤمن بالقوة العسكرية لحسم الصراع علي المسارات الباقية وتحديدا الفلسطيني والسوري. 2 لم تتوافر قيادات سياسية إسرائيلية مؤمنة بالتسوية السياسية للصراع مع الفلسطينيين, وربما يكون رابين آخر من كان لديه استعداد لتسوية سياسية ما علي النحو الذي جسده اتفاق أوسلو. 3 الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل, ولا وجود لطرف معادل يوازن هذا الانحياز أو يحد من تأثيراته. 4 غياب الرغبة في التسوية السياسية الحقيقية من جانب القوة الرئيسية في النظام الدولي, أي الولاياتالمتحدة, وغياب الرغبة هنا يعني عدم الاستعداد لفرض تسوية سياسية عادلة بإمكانها أن تتحول إلي سلام حقيقي. ويبدو ذلك واضحا منذ بداية الصراع وتحديدا في القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بشأن القضية الفلسطينية, فلم يصدر أي قرار استنادا إلي الفصل السابع من الميثاق, والذي يفتح المجال أمام متابعة عملية تنفيذ القرار واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك بما فيها القوة العسكرية. وعلي الرغم من فقدان الصراع العربي الإسرائيلي لمعظم الشروط اللازمة لبدء تسوية سياسية حقيقية تقود إلي سلام شامل علي غرار ما شهدته صراعات تندرج ضمن' الاجتماعية الممتدة', فإن البعد الأكثر تأثيرا هنا تمثل في الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل والذي يصل إلي مستوي تبني الموقف وتكريس قدرات واشنطن وعوامل قوتها المختلفة لخدمة التصور الإسرائيلي. وكان الانحياز الأمريكي لإسرائيل غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية, هو الذي جعل هذا الصراع يظل الاستثناء في عدم التسوية, وتظل فلسطين الدولة الوحيدة التي لم تحصل علي استقلالها من الاستعمار التقليدي, إذا أخذنا المعيار الأراضي المحتلة في عدوان يونيو1967 فقط. ولقد ترتب علي هذا الوضع إقرار حالة استثناء إسرائيل من تطبيق قواعد القانون الدولي أو الالتزام بقرارات الشرعية الدولية, وقد بدأ هذا الوضع في التغير التدريجي مع مجيء إدارة أوباما, فهل انتهي زمن استثناء إسرائيل من الخضوع للقانون الدولي. البعشض يبحث عن أسس للانقسام والعداء, وعادة ما تتم العودة فيها إلي عوامل الانقسام الأولي وعلي رأسها العرق والدين كان الانحياز الأمريكي لإسرائيل غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية, هو الذي جعل هذا الصراع يظل الاستثناء في عدم التسوية.