دخلت إلي المدرسة الابتدائية مدرسة المؤسسة للبنين بالباجور منوفية مطلع ستينيات القرن الماضي صف أولي أول ابتدائي, ويبدو ان النقل من الصف الأول للصف الثاني, كان نقلا اليا بلا امتحان نهاية العام, ومع ذلك فإن أستاذنا الجليل أحمد شما رحمة الله, قد عقد لنا امتحان قبل نهاية العام, وراح ينادي أسماء العديد من الطلاب من الذين حصلوا علي درجات صغيرة في الامتحان وبعد أيام عقدت لجنة خاصة لامتحان طفل السنة الأولي الابتدائية في الحساب والاملاء, فاثبت فيه جدارته بدخول ثانية أول, هذا ما كان يحدث في تعليم مطلع الستينيات من القرن الماضي, وقد توقفت الدولة عن تعيين الخريجين, ومن هنا فلم يعد يهمها اذا كان الحاصل علي بكالوريوس الهندسة يجيد جدول الضرب من عدمه, أو أن الحاصل علي بكالوريوس الزراعة يعرف الالف من كوز الذرة ويعلن انهم سيتوجهون إلي الصف ثانية ثاني وكان من بينهم احد اقاربي, وقد جري العرف في هذا الوقت وفي المدارس المحدودة العدد ان يكون صف اول هو للتلاميذ الشطار الذين كانوا واجهة المدرسة ومحل اجتهادها للحصول علي مراكز متقدمة بالمقارنة بغيرها من المدارس, بينما كان الصف ثان هو صف البلداء من التلاميذ من ابناء رقيقي الحال والفقراء والحرفيين, والذين يغلب انهم سيرسبون أو يتسربون من التعليم. المهم انه في مساء ذلك اليوم امتلأ بيتنا بوالد واقارب ذلك التلميذ قريبي والذي تقرر دخوله ثانية ثاني, لكي يحتجوا ويشتكوا لابي من الظلم الذي حاق بابنهم وكان ابي رحمه الله وكيلا للمدرسة واحتدت المناقشة وارتفعت الأصوات الغاضبة, إلي ان وعدهم ابي بأنه سيحاول إعادة امتحان ابنهم, وبعد أيام عقدت لجنة خاصة لامتحان طفل السنة الأولي الابتدائية في الحساب والاملاء, فاثبت فيه جدارته بدخول ثانية أول, هذا ما كان يحدث في تعليم مطلع الستينيات من القرن الماضي, لاحظ حضرتك ان هذا كله قبل أن يعرف الناس في تلك القرية البعيدة وذلك الزمن البعيد, مفاهيم الجودة الشاملة والتميز للجميع, والتنافسية, وغيرها من شعارات جوفاء يتشدق بها المسؤلون ليل نهار ويعلم الكهول ممن هم في مثل سني, أن بعض زملائنا قد قعدت بهم قدراتهم أو عقدهم ازاء بعض المواد الدراسية عن النجاح, فاستنفدوا مرات الرسوب وانصرفوا عن التعليم, ليشقوا طريقهم في الحياة بلا شهادات تعليمية بل ربما كانت كلمة راسب إعدادية ثانوية تعني الكثير وهكذا كان الناجحون ناجحين بحق وكانت الدرجة التي يحصل عليها الطالب لها قيمتها, وتعني بالتاكيد معارف ومهارات وقدرات حصلها الطالب, كل هذا طبعا في ظل انضباط حقيقي في التدريس واجراءات الامتحان والتصحيح وتقدير الدرجات وغيرها. وهكذا كانت كلية الطب تقبل في السبعينيات الحاصلين علي نحو80%, والهندسة70% والتجارة65%, والاداب60% والحقوق55% فما الذي حدث ؟ وما الحال الان؟ انا اظن ان الحال لا تخفي علي لبيب, واننا جميعا نعرف انه لا احد يتأكد من ان ابناءنا في الشهادة الاعدادية يجيدون القراءة والكتابة, والحاصلون علي اكثر من تسعين بالمائة في الثانوية العامة لايجيدون التعبير, بل وصل التدهور إلي خريجي الجامعات وهذا امر منطقي اذ ان طلاب الجامعات هم ابناء نظام التعليم قبل الجامعي, ويحكي الناس الأعاجيب عن تدهور مستوي خريجي الدبلومات الفنية والتي تصل إلي حد العجز عن كتابة اسمائهم بعد12 سنة من انتظامهم في المدارس ونجاحهم في امتحاناتها, كما يذكرون ان الكثيرين منهم يرسبون في امتحانات محو الامية اذا اجبرتهم الظروف علي دخولها, وقد طيرت الصحف منذ سنوات اخبار معركة ضاربة بين وزير التعليم آنذاك حسين كامل بهاء الدين ومحافظي البحيرة وبني سويف حول اجادة طلاب الاعدادية للقراءة والكتابة, مما اضطر محافظ البحيرة إلي تعطيل الدراسة لعدة شهور لمحو امية طلاب الاعدادية. وأنا أظن أن هناك اسبابا عديدة تكمن خلف هذا التدهور, منها تدهور الانفاق علي التعليم وتدهور مرتبات المعلمين وهو ما دفعهم للبحث عن مصدر حقيقي للدخل في الدروس الخصوصية ومن هنا اصبح التدريس الحقيقي في الدروس الخصوصية, واصبح التعليم لمن يدفع من جيبه الخاص وليس لمن هو مسجل بالمدرسة. وقد توقفت الدولة عن تعيين الخريجين, ومن هنا فلم يعد يهمها اذا كان الحاصل علي بكالوريوس الهندسة يجيد جدول الضرب من عدمه, أو أن الحاصل علي بكالوريوس الزراعة يعرف الالف من كوز الذرة, طالما ان الشهادة المختومة بخاتم النسر لا تلزمها بشيء, ولماذا يهتم طالب الحقوق بالقانون الدولي والمدني والتجاري وفلسفة القانون والاجراءات وغيرها من مواد طالما انه بعد التخرج سيكون كل طموحه ان يعمل بائع كشري أو سائق تاكسي, هذا طبعا في ظل غياب أي معان للجودة والمحاسبية والتحقق, وانما فقط تقارير روتينية بيروقراطية يرفعها الادني للاعلي تؤكد ان: الامور تمشي علي قدم وساق وان كله تمام سيادتك. وفي ظل عدم الربط هذا بين الشهادة وبين العمل, لم يعد الطلاب يهتمون لا بمهارات ولا قدرات ولا معارف, وانما هي شهادات من الورق لزوم المنظرة الاجتماعية ومن ثم يمكن الحصول عليها بالشراء او بالغش أو بالاقدمية. ولعل الدولة قد وجدت في نسب النجاح ومجاميع الطلاب المرتفعة, ما يخفف علي الناس مشكلاتهم ويعينهم علي تحمل القرف والبلاوي التي تحيط بهم. ولكن هذا كله ما كان ليحدث لولا القرارات الادارية بانجاح الطلاب, ولقد عملت مدرسا زهاء عشر سنوات, كانت الادارة التعليمية تهددنا بعدم اعتماد نتيجة الطلاب اذا لم تزد نسبة النجاح علي90%, حتي لو قلنا لهم إن اوراق الاجابة بيضاء. المشكلة الحقيقية والتي تحتاج شجاعة المواجهة, ماديا ومعنويا ومهنيا, ان لدينا نحو عشرين مليونا من الطلاب بين التعليمين العام والأزهري, فإذا كان من المنطقي ان يرسب25% من الطلاب, فهل هناك من يستطيع تحمل بقاء خمسة ملايين من الطلاب لعام آخر تال؟ [email protected]