كانت صدمتي في بيروت قاسية, لم أفهم لماذا استسلمت تماما لغواية رأس المال السياسي القادم مع سوليدير, تلك الغواية التي جعلت نقد بيروت ملجأ سهلا يذهب اليه الغاضبون منها وحيلة يمارسها كل من تربوا في احضانها. ومن بين هؤلاء تذكرت دائما ما كتبه ناشر كبير مثل رياض الريس في مذكراته' آخر الخوارج' وما رصده عن آثار تلك الحقبة بمرارة طاغية مثله في ذلك مثل الشاعر أدونيس الذي كتب محاضرة شهيرة في هجاء المدينة أثارت ضده عاصفة من الهجوم اضطرت بعض اللبنانيينألان يرفعوا في مواجهتها نصوصا من قصيدة شهيرة لمحمود درويش كتبها بعد حصار بيروت بعنوان' بيروت خيمتنا الاخيرة' يقول فيها: (2) يبدو لي ان كل تلك النصوص كانت مدخلا للتعاطي مع المدينة بقلق' المرتاب' في محبتها. ولاشك ان كل تلك الصور الجاهزة والمقالات والمعارك قادت خطواتي وعثرتي في المدينة ولم تجعلني أقبل بما كان قائما منها علي الارض و بدت لي خالية الدسم مصنوعة علي أنقاض ذكريات واقتلاعات منظمة لفقرائها الذين كانوا يمنحوها من سخطهم وصخبهم شيئا أكبر من معني الروح وانتهي بها الحال إلي صورة تشبه كثيرا بلاتوهات التصوير السينمائي صورة يمكن إنكارها بسهولة علي الرغم من أن عصرنا وكما يقول الفيلسوف الفرنسي جي ديبور في كتابه: مجتمع الفرجة يفضل الصورة علي الشيء النسخة علي الأصل التمثيل علي الواقع المظهر علي الوجود وما هو مقدس بالنسبة له ليس سوي الوهم أما هو مدنس فهو الحقيقة وبالأحري فإن ما هو مقدس يكبر في عينيه بقدر ما تتناقض الحقيقة ويتزايد الوهم بعد ان كتبت مقالي الاول عن بيروت اعترفت لصديق لبناني بعدم التعاطف مع هذه الصورة فوجدته يشاركني الشعور نفسه وقال لي إنها رغم جمالها تشكو عدم التآلف فهي لم تبن من أجلنا وإنما لهؤلاء القادمين بالأموال لإلغاء فرادة لبنان وفك حزام أمانه التاريخي بالنسبة لنا هي ليست أكثر من إكسسوار أو عملية تجميل لوجه امرأ ة عجوز بغرض إخفاء تجاعيدها التي سببتها الحرب الأهلية ثم أضاف نحن أيضا كجيل قديم نسبيا كرهنا هذه الصورة لأننا لم نتحرر بعد من سطوة ماضينا وصوره لكن أولادنا الصغار في طريقهم الآن إلي محبتها لأنهم لم يعرفوا الصورة القديمة التي عرفناها يبنون علاقاتهم الغرامية في المطاعم والمقاهي وقاعات الديسكو والبوب ميوزيك التي تملأ الشارع أما ذكرياتنا نحن فهي ممددة كجثة في شوارع مهددة هي الآخر بالشطب والإلغاء. أعجبتني كلمة التجاعيد وربطت بينها وبين الآثار الجانبية للحرب الأهلية خاصة أنها لم تنته بعد ويبدو أن اللبنانيين في حاجة إلي سنوات طويلة قبل التخلص منها ومن مفارقاتها التي ترسم حدودا حقيقية في المدينة ما يدفعني للتأكيد علي هذا المعني ما قالته لي واحدة من صديقاتي علي سبيل السخرية وهي تدعوني للكتابة عن لبنان الذي يتعرب كانت صديقتي تشير الي الشارع الذي يتغير, حيث يحاول البعض الغاء الحيز الشخصي والاعتداء علي' الخصوصية' او المجال العام بدت لي صديقتي وكأنها تتحدث عن مدينة أخري وتريد ان تلفت نظري بغضبها الي أشياء بالنسبة لقاهري مثلي' عادية' ولا تستحق كل هذا الالم الان وبعد عشر سنوات وزيارات متكررة اعتقد انني لم اكن اقول الحقيقة وانا اتحدث عن لبنان الذي لا احبه,, فقط كنت بتلك المقولة المجانية اخفي خوفي من تلك البقعة' السحرية' التي شعرت فيها بغربة خلقت بيني وبين' بيروت' مسافة لم تتبدد الا في العاميين الأخيرين حيث نجحت في تهذيب مشاعر' عدم الارتياح' هذه, وبدا لي أني وصلت مع المدينة إلي' اتفاقية تصالح' سمحت لرائحة بيروت الحقيقة بالوصول إلي رئتي وتدريجيا صرت مستعدا لقبول المقولة التي جعلها الروائي اللبناني ربيع جابر عنوان لروايته' بيروت مدينة العالم''. (3) أدركت بعد سنوات أن المدخل الثقافي لبيروت هو مدخل مضلل تماما ومن الافضل لي ان اتجول فيها كسائح يحتاج الي خريطة تدله بدلا من حاجته الي رأي يقوده أو يضلله, يمسك في يديه بكاميرا بدلا من ان يري المدينة بعين أبطال الروايات اللبنانية المكتوبة بوعي الحرب وهو وعي منقسم علي ذاته وجعل الناس' شظايا' وربما بشر انتهت صلاحيتهم. وفي الطريق الذي كنت أقطعه يوميا من الفندق الذي أقمت فيها في الحمراء وصولا الي وسط المدينة كان لابد من المرور علي' حديقة الصنائع' التي عرفت اسمها لأول مرة من رواية' بناية ماتيلدا' لحسن داود ومن مسرحية' جنينة الصنائع' للمخرج الكبير روجيه عساف والتي شاهدتها في القاهرة في العام2004 وبدأت بعدها تأمل تلك الحديقة التاريخية الرائعة التي ينظر اليها اللبنانيون بكثير من الاحترام فهي متنفس المدينة الوحيد والمهدد ايضا بالاقتلاع كما قالت لي صديقتي الروائية رشا الامير التي يطل مكتبها علي الحديقة تقول لي رشا:' يحلو لي يوميا ان أراقب من شرفة مكتبي العشاق والعجائز وهم يكتبون حكاياتهم هنا, في المكان الذي قد لا يكون موجودا في زيارتك القادمة, لان جيوش رأس المال لا تحب أن تستمع لصوت العصافير. رشا المولعة بالتاريخ والتفاصيل ذكرت لي ان الحديقة تبرع بها آل طبارة عام1908, و اكتسبت اسمها من مدرسة مهنية لتعليم الصنائع والفنون أنشأها السلطان عبد الحميد الثاني في منطقة حي الرمل بعدها لفتت نظري بطريقتها الي قرار أصدرته بلدية بيروت بتحويل الحديقة إلي جراج للسيارات ولولا اعتراض أهالي المنطقة وبعض الجمعيات علي القرار.لجري تنفيذه وانتهت الحديقة التاريخية الي الابد لكن ما لم تقله رشا الا انه يعلن عن وجوده بوضوح هو' حالة الإهمال التي جعلت الحديقة متروكة للخراب' فهي تموت ببطء يجعل أمر التخلص منها سهلا ليسهل تمريره من دون مقاومة.'. وأنا أقف أمام الباب بالكاميرا طلب مني الشاب الذي يقوم بتأجير دراجات هوائية صغيرة للاطفال ألا أصور محله لأن البلدية تطارده لكنه سمح لي بالتصوير بعد ان أدرك هويتي المصرية وبعد دردشة قليلة حول أفلام' اللمبي' قال لي:' عندما تكتب قل: أن الحديقة مهمة', فقد استخدمها الناس الذين انهدمت بيوتهم في الحرب مأوي وملجأ'. من صفحات الانترنت علمت أن الحديقة كانت دائما' مرآة لمأساة عاشها لبنان بسبب العدوان الإسرائيلي' وكما يشير الي ذلك محمد الحجيري الذي كتب مستعرضا كتاب للباحثة باسكال فغالي عن الحديقة التي لعبت دورا في الذاكرة اللبنانية بعد الحرب, ففي السابع من أبريل عام1983 شهدت حديقة الصنائع إعدام المدعو إبراهيم طراف لقتله كلا من ماتيلدا الحلو وولدها مارسيل باحوط بعد أن استأجر غرفة في منزلهما في منطقة الصنائع. و بعد شجار مع صاحبة المنزل طعنها طراف وولدها في الواحد من ديسمبر عام1979 بالسكين وأرداهما صريعين, ثم قطعهما إربا وجمع أشلاءهما في كيس نايلون ورماها في بؤرة قرب حديقة الصنائع ومن تلك الواقعة اشتغل روجيه عساف علي مسرحيته التي تصور حادثة محورها شاب يدعي خليل?, متهم بقتل السيدة إيفون صاحبة الشقة التي كان يسكنها عام1979 ذروة الحرب الاهلية. (4) في زياراتي الأخيرة كنت امشي في شارع الحمرا بثقة' قبضاي/ فتوة' كأني صرت جزءا من التاريخ الذي حمله الشارع, شخص تبرز صورته ضمن مئات مروا من هنا, وأردوا ان يكونوا ضمن تفاصيل المشهد و ربما بفضل هذه الثقة بدأت الإنصات إلي وقع خطوات الناس, وتسامحت مع القبح الذي تصدره فترينات' محال الألبسة النسائية' التي غزت الشارع فغيرت من ملامحه, وأخذت معها أيقونات بيروت الثقافية وآخرها مقهي' المودكا' التي اغلق قبل نحو خمس سنوات وكان الحصن الاخير لمثقفي الستينيات هناك, لكن المدينة رغم ذلك تصنع ايقونات جديدة وتبدل صورها لتلائم الجميع فقد أبقت في الشارع القليل من'' الديناصورات المقاومين' لكن ما لفت نظري اكثر وجعلني اعود لما سبق لي ودونته عن بيروت قبل الحرب التي حدثت في العام2006 والتي غيرت الكثير من ملامح المدينة, ليس فقط علي صعيد البنية التحتية التي تعرضت لتدمير منظم بفضل الوحشية الاسرائيلية ولكن علي صعيد الخدمات التي تقدم للسائحين, فقبل هذا العام كان ثقل المدينة التاريخي قد بدأ ينتقل من شوارع الحمرا والمونو الي' السوليدير' منطقة الوسط التجاري التي اعادت شركات الرئيس الشهيد رفيق الحريري اعمارها في صفقات اثارت لغطا كبيرا لكنها انتهت بتغيير الطابع الديمواجرافي للمكان اذ خرجت منه غالبية العائلات البيروتية التي نالت تعويضا هزيلا في مقابل مليارات الدولارات التي وصلت للشركة التي رممت المنطقة وباعتها لشركات عالمية ولافراد من داخل بيروت وخارجها حتي ان الكثير من الاسر اللبنانية تركت وسط المدينة التجاري وصعدت اما الي الجبل حيث بدأت عمليات منظمة لاغتياله بالاسمنت وتجريد الطبيعة من أجمل ما فيها واما الي المناطق العشوائية التي نمت علي حزام بيروت وخاصة في الضواحي المتاخمة لكن الاكيد ان منطقة' الوسط التجاري' شهدت ارتفاعا جنونيا في اسعار العقارات اذ بيعت شقة علي البحر بمبلغ يقارب ال20 مليون دولار امريكي ولكل هذه الاسباب مجتمعة كانت النخبة الثقافية تعارض هذه الاجراءات كما أن الشاعر ادونيس في محاضرته الهجائية الشهيرة قد رأي ان الهندسة العمرانية التي تهيمن علي بيروت تقتصر علي الحد الادني من الابداع والخصوصية فهي عامة تقليد او نسخ مبتذل وقوالب جاهزة تتكرر, وهي في نظره هندسة لا تستند الي استراتيجية عمرانية, انها نوع من تدمير الفضاء. و استهلاك للمكان الذي يستخدم لغايات ليست جمالية في غالبيتها, فبيروت تكاد تخلو من متعة استخدام الفراغ المكاني جماليا الي جانب استخدامه وظائفيا'. أدونيس رأي أن تكوين صور الفضاء البيروتي عامة يصدر عن نزوات فردانية تتطابق مع مصالح معينة اقتصادية واجتماعية وطائفية. ووصف كل ذلك بأنه تلوث ونوع من سرقة الفضاء.. من اغتيال الارض واغتيال الفضاء, وشبه الابنية بمخالب تنهش كبد الارض' الأكيد ان اثار حرب2006 اعادت الكثير من اللبنانيين الي فضائهم القديم الي منطقة شارع الحمراء التي تمتليء الآن بأعلام مختلف الفرق في كأس العالم, فالسيارات التي تمر في الشارع تحمل أعلام البرازيل وايطاليا والارجنتين وأسبانيا والمانيا وتثير صخبا لتعلن عن وجودها في الشارع كما ان البنايات في المنطقة السكنية تفرد نفس الاعلام في مقاسات كبيرة لافتة للنظر. وبينما كنت أجلس والدكتور عماد أبو غازي الامين العام للمجلس الاعلي للثقافة في مقهي' سيتي كافيه' مر موكب من السيارات والموتوسيكلات التي كانت تحمل أعلام' تركيا' وبعض الفصائل الاسلامية ولما استفسرنا عن السبب قالت لنا الروائية الصديقة علوية صبح:' من يوم اللي جري في غزة وما حدث لاسطول الحرية واعلام تركيا لم تنكس يحملها الشباب في كل مكان' هل هي حالة من التعويض' يمارسها اللبنانيون الذين من النادر ان يحملوا' العلم اللبناني في المظاهرات حيث يصر كل فصيل معارض علي حمل العلم الذين يعلن عن هويته السياسية والطائفية' صديقتي لم تترك لي فرصة الدخول في متاهة السؤال عن هوية اللبناني في اللحظة الراهنة ودعتني لأتأمل ما يجري في' الحمرا' تقول لي:' الاحداث السياسية التي عاشها لبنان بعد2006 أكدت ان الوسط التجاري أصبح مكانا دائما للتظاهرات التي تنافس فيها أنصار حزب الله في مواجهة مؤيدي تجمع14 آذار ما يعني ان المنطقة لم تعد ملائمة للاستثمار السياحي, فالاعتصامات التي نظمها الفرقاء السياسيون أثرت سلبيا علي الحياة في المكان, فلم تعد المقاهي والمطاعم التي شغلت تلك الاماكن مقابل مبالغ فلكية قادرة علي تغطية نفقاتها بسبب اضطراب الوضع الامني ومن ثم كانت العودة الي الحمراء هي الحل الوحيد والآمن ومع تلك العودة تخلي لبنان عن قشرة الاستعراض والأناقة الزائفة التي كانت قائمة في' السولدير' وعاد بلدا طبيعيا بغير' داون تاون' مصنوع ومختلق.. عاد بالطاقة ذاتها التي الهمت نزار قباني قصيدته عن الحمرا والتي يقول فيها': علمني حبك أن أري بيروت امرأة طاغية الإغراء...امرأة تلبس كل مساء أجمل ما تملك من أزياء'