بعد فشل وقفتي الاحتجاجية ضد الظلم الواقع علي الزوجات والاستعباد الممارس من الأزواج الأسبوع الماضي, والتي كادت تتحول إلي كارثة حين توافدت سيارات الأمن المركزي وأحاط الجنود بالعمارة, ونصحني عم أحمد البواب بالتعامل مع الوضع بقدر أكبر من التروي والحنكة, عدت أجرجر أذيال الخيبة القوية إلي البيت, وذلك بعد ما نكست لوحاتي الاحتجاجية وأسكت صيحاتي النارية. وما أن دخلت البيت حتي فوجئت بزوجي يرحب بي قائلا:' أوعي تفتكري إن أنا زعلان من الحبتين القرعة اللي إنت عملتيهم! أنا راجل ديمقراطي وإحنا متفقين من الأول إن كل واحد في البيت ده من حقه يعبر عن نفسه بكل حرية واستقلالية. وإنت عارفة يا حبيبتي إن أنا أكثر واحد متضامن مع حق المواطن في التعبير عن رأيه شرط عدم تجاوز حدود الأدب والذوق واللياقة!' تذكرت مقولة عم أحمد بإن زوجي عنيد ويجب معاملته بكثير من الحنكة, فسألته برقة مصطنعة:' ويا تري يا حبيبي إيه هي حدود الأدب والذوق واللياقة؟' رد بسرعة:' يعني تعملي اعتصام علي باب المطبخ.. ماشي! تقومي بوقفة احتجاجية قدام السفرة.. مقبول! تنظمي مسيرة سلمية في الطرقة.. ما فيش مشكلة! لكن تحاولي تشوهي سمعة البيت وتنشري الغسيل بتاعنا أمام إللي يسوي وإللي ما يسواش.. لأ! دي مشكلة داخلية ولازم تتحل داخليا. ولا تنكري إن أنا مكتبي مفتوح لك في اي وقت!' أوشكت علي فتح فمي لأذكره بأن مكتبه هذا توقف عن أداء دوره منذ ما يزيد علي15 سنة, وأنه أصبح خليطا من مقلب زبالة ووكر للخارجين علي القانون من الأولاد الراغبين في إجراء مكالمات هاتفية سرية أو الاطلاع علي مواقع إلكترونية غير مسموح بها, ولكني تراجعت في آخر لحظة حقنا للسجال. اكتفيت بأن أومئ برأسي في إشارة لشعوري بالامتنان والتقدير لكرمه ورحابة صدره رغم أن عناقيد الغضب وبراكينه كانت قد بدأت تتفجر في داخلي. هنا طلبت منه تحديد موعد لعقد اجتماع ثنائي مغلق للتشاور في عدد من الأمور المعلقة التي يهمني البت فيها قبل انتهاء عطلة الصيف. ظهرت علامات الملل وأمارات التأفف علي وجهه, ولكني سارعت إلي طمأنته بأن الملفات التي أنوي طرحها علي طاولة المفاوضات ليست ذات طابع اقتصادي, أو علي الأقل لا تحوي مطالبات مالية مباشرة. سمعت صوته وهو يتنفس الصعداء واتسعت حدقتا عينيه وانبعجت جبهته! وهما العلامتان اللتان تصاحبان الكلمات التي يتفوه بها ولا تمت بصلة لحقيقة شعوره? وقال:' وحتي لو في هناك مطالبات مالية أو مشاريع اقتصادية, وماله. أنا كلي ليك!' مرة أخري كدت أستغل الموقف وأطالبه بمقدم السيارة الجديدة التي تداعب مخيلتي, أو شاليه مارينا الذي أحلم به, أو حتي قيمة فاتورة الكهرباء الأخيرة التي سددتها بعد ما وعدني برد المبلغ لي ولم يفعل, ولكني تراجعت, وقلت لنفسي أن المكاسب التي تأتي سريعا لا شك ستتبخر سريعا أيضا. وحدد لي زوجي العزيز موعدا بعد أسبوع في الصالون متذرعا بأن' غرفة المكتب' قبلي, ويبدو أنه أدرك أنها لم تعد مكتبا. وفي الموعد المحدد توجهت إلي الصالون وأنا محملة بعشرات الملفات التي خططت لفتحها مع زوجي الديمقراطي. ووصل هو بعد الموعد المحدد بما يزيد علي ساعة متحججا بالازدحام المروري الذي تسبب فيه تكدس الأولاد وأصدقائهم الذين تجمهروا أمام التلفزيون لمشاهدة مسلسل' ميرنا وخليل' التركي المدبلج. وجدته هو الآخر محملا بتل من الملفات, فتوجست خيفة. وجلسنا وأنا أذكر نفسي بنصيحة عم أحمد البواب. وبدات وقائع القمة, إذ تركني زوجي أعرض جدول الأعمال: أولا: إلغاء مبادرة أربعة في واحد المطالبة بوقف العمل بهذه المبادرة فورا والتي هدت حيلي وكسرت شوكتي, إذ إنني أقوم بخدمة الجميع رغم أن كلا منهم قادر علي خدمة نفسه, أو علي الأقل المساهمة بقدر من الجهد في أعمال البيت. ثانيا: تعميم مبدأ التهييس للجميع. فالتهييس لا يمكن أن يظل حكرا علي الذكور دون الإناث, فحين يكون هو عائدا من العمل وشايل طاجن جدته الله يرحمها, يجد أنه من حقه أن ينزل بعد الظهر يهيس حتي يفك عن نفسه, وهو الحق الذي يحرمني منه رغم أنني أعود من العمل حاملة طاجن جدتي وجدي وعمي وخالي وخالتي وكل أفراد العائلة. رابعا: تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية وتعميم مبدأ التكافل فمن غير المعقول الإبقاء علي هذه الفروق الاجتماعية الشاسعة في داخل حدود البيت الواحد, لا سيما وأننا ننتمي إلي الجيل الذي كتب العشرات من مواضيع الإنشاء عن أهمية إذابة الفوارق بين الطبقات, وضرورة أن يعطي الغني الفقير تحقيقا لمبدأي التكافل واتقاء عين الفقير المئورة والمدورة. وبمعني آخر أن يقوم زوجي طواعية بتخصيص نسبة من راتبه الشهري كمنحة لا ترد لي, وذلك حتي نكون علي قدم المساواة اجتماعيا واقتصاديا, لا سيما في ضوء العلاوة الأخيرة التي حصل عليها. وقبل أن أنطق ب'خامسا' كان زوجي قد بدأ يعبر عن تململه بشتي وسائل التعبير الحركي والانفعالي واللاشعوري, فما كان مني إلا أن توقفت استعدادا لاتهامه بالازدواجية والمعاملة الفوقية وانتقاص الليبرالية وخرق الديمقراطية واتباع مبادئ الإمبريالية, لكنه قال لي بهدوء:' دعينا من الكلام النظري هذا. لدي مقترحات فعلية قابلة للترجمة علي أرض الواقع. دعيني أعرضها عليك قبل أن نهدر الوقت في هذا التنظير الأدبي الذي لا طائل من ورائه, وخلينا نتكلم كلام رجالة'. ابتلعت غصة الغضب من تلك الملحوظة الذكورية العنصرية, وقلت في بالي:' الغاية تبرر الوسيلة! خلينا لما نشوف آخر كلام الرجالة!' قال زوجي عندي ثلاث مسائل رئيسية, أولها الإجازة, وثانيها مصروفات البيت, وثالثها العلاوة. انفرجت أساريري وانبعجت بشدة. إذن لقد اسفرت جهودي العاتية ومحاولاتي المتلاحقة وأفكاري المتجددة في أن يراجع زوجي نفسه, ويقرر أن يحقق لي ولو جانبا من مطالبي المشروعة. سكت تماما واسترخيت علي كرسي الصالون وأنا أمني نفسي بالاستماع إلي تفاصيل خطته الذهبية التي ستحقق لي نقلة نوعية حقيقية. ليس هذا فقط, بل راودتني فكرة حاولت جاهدة أن أطردها خوفا من أن تتمكن مني وأجدني أعكسها من خلال كتاباتي ومناقشاتي وأخسر بذلك علاقاتي ومصادري التي بنيتها عبر السنوات في الجمعيات الحقوقية النسوية والمؤسسات الخيرية المطالبة بالقضاء علي صنف الرجال. قلت لنفسي:' يبدو أن أسلوب الرجال العملي في التفكير, والابتعاد الذكوري عن اللف والدوران, والميل الطبيعي الرجالي للإنجاز علي أرض الواقع عناصر إيجابية بالفعل وتستحق البحث والدراسة. وبدا زوجي يعرض خططه الثلاث. قال:' أبدأ بالإجازة لأنها قاربت علي الانتهاء, فها هو شهر رمضان لم يتبق عليه سوي أسابيع معدودة, ولم ننعم بمصيف أو فرصة للاسترخاء هذا العام. ونظرا لظروف الأزمة المالية وأثرها علي الاقتصاد العام, وارتفاع الأسعار وتأثيره السلبي علي القوة الشرائية, والسحب علي المكشوف من المخزون الاستراتيجي القابع في دفاتر التوفير بعد ما تكالب المدرسون الخصوصيون علينا في نهاية العام الدراسي الماضي, فقد فكرت في أن نقوم بعمل قرعة علنية لاختيار شخص واحد فقط من البيت ليتوجه إلي المصيف, علي أن تعاد التجربة في العام المقبل لاختيار عضو آخر لينعم بالمصيف. وبهذه الطريقة, نكون قد حققنا مبدأ مراعاة الجودة العالية والنوعية المميزة في المصيف, وذلك بدلا من أن نتوجه جميعا إلي مصيف أي كلام لفترة قصيرة. وقد قمت بالفعل بالحجز في فندق خمسة نجوم لمدة أسبوع كامل ستذهب لمن يكسب في القرعة'! تضايقت بعض الشيء من أنه قد فكر وقرر ونفذ دون أخذ رأيي, ولكنني قررت أن أتمسك بتفكيري الإيجابي. وقلت في عقل بالي:' ولي لأ؟! ما يمكن أكسب أنا وأنعم بهذه الإجازة اللوذعية بعيدا عن قرف العيال, وطلبات زوجي, وحر القاهرة ورطوبتها الخانقة؟!' ويبدو أن زوجي استشعر ما كنت أفكر فيه, فوجدته يخرج من جعبته صحنا وفيه أوراق مغلقة قال لي إن كلا منها يحوي اسما لواحد من أفراد الأسرة. وضمانا للشفافية, دعاني لأسحب أنا الورقة التي أختارها. تقدمت إلي الصحن بقلب مرتجف ويد مهتزة, وتوكلت علي الله وسحبت إحدي الورقات, وفتحتها وأنا أمني نفسي بأكلة السمك علي الكورنيش ومذيلة بطبق أرز باللبن بالمكسرات, وافقت من حلمي وأنا أتهجي اسم زوجي. يا للهول!! كانت الصدمة قاسية, ولكن ما العمل؟! لقد وقعت الفأس في الرأس, ولن أتمكن من أن أقول ثلث الثلاثة كام. فقد اقترح اقتراحا ووافقت عليه, فلا مجال للطعن في دستوريته. حتي الاختيار, لا مجال لتوجيه تهمة التزوير له, فقد قمت بنفسي باختيار الورقة! كظمت غيظي, وبلعت كمدي, ومنيت نفسي بالبندين الثاني والثالث, فهناك الكثير مما يمكن أن أفعله بالزيادة المتوقعة في الموارد المخصصة لمصروف البيت.وسرحت قليلا, فمن الممكن أن أستثمر الفائض من المصروف في البورصة, أو أشغل جزءا من المصروف المودع لدي في مشاريع ذات ربحية عالية. وبعدين مش بيقولوا إن الحكومة بتعمل كده في أموال المعاشات, يبقي ما حدش أحسن من حد. قطع زوجي حبل أحلامي بقوله:' نيجي بقي للموضوع الثاني ألا وهو مصروف البيت. طبعا حجز أسبوع كامل فطار وغذاء وعشاء في فندق خمس نجوم علي البحر ده مش أمر هين, صحيح إن القرعة رسيت علي, لكن طبعا ده ما كانش مخطط لي أبدا. المهم إن موضوع الإجازة ده هيحتم علينا ربط الأحزمة علي البطون الثلاثة أشهر الجايين لأنه هاضطر آسفا لتخفيض قيمة مصروف البيت إلي النصف'!( وهنا اختلس نظرة إلي وجهي الذي تغير لونه من حمرة الغضب إلي زرقة كتم الانفجار واستطرد:' ويمكن كمان أكثر شوية من النصف'. بدات أمسك رأسي, ثم بطني, ثم قلبي. ويبدو أن زوجي استشعر أنني علي وشك إما أن أفقد وعيي فأقذفه بما تطوله يدي, أو أن أقع مغشيا علي, فسارع بعرض البند الثالث, والخاص بالعلاوة. كان هذا هو الأكل الأخير المتبقي لي. أكيد سيعلن الآن أنه قرر التنازل لي عن قيمة العلاوة بالكامل, علي الأقل حتي لا' أبص' له في الإجازة الميمونة, أو أرفع عليه قضية في محكمة لاهاي الدولية بسبب حكاية تقليص الإنفاق. قال بجبروت وقدرة يحسد عليهما:' أما العلاوة التي حصلت عليها أخيرا في العمل, والتي لا أنكر إنها علاوة محترمة, فقد هداني تفكيري بعد طول بحث وتقص إلي فكرة عبقرية. فقد قررت أن أتعامل معها وكأنها مش موجودة علي أن أدفعها قسطا شهريا في شيء ملموس ومحسوس'. بدات الدموية تدب في وجهي مجددا. أخيرا سيعوض ربنا صبري خيرا. راودني شعور قوي أنه قد اشتري لي السيارة إياها التي أحلم بها, وأن قيمة العلاوة ستسدد ضمن القسط الشهري. وهنا وقف زوجي, وجذبني من يدي بحنان ورقة غير معهودين منذ فجر زواجنا, وقادني نحو النافذة. وحين اقتربنا وأنا كمن تم تنويمها مغناطيسيا طلب مني أن أغلق عيني, ففعلت, وفتح النافذة وطلب مني أن أفتحهما وهو يشاور بيده علي السيارة الحلم. هي هي تقف أمام البيت كالعروس. أخذت أصفق وأتنطط وكأن مسا من الجنون قد أصابني. ولم أتوقف إلا حين قال زوجي:' أنا كنت متأكد إنك هتفرحي علشاني! تعالي بقي أخذك لفة بعربيتي الجديدة لأني هأسافر بيها بكرة الإجازة علشان ألينها!' وجدت يدي تتسلل إلي الصحن الزجاجي الذي يحوي أوراق القرعة وفكرت أن أقذفه به, إلا أن هاتفا ما جعلني أفتح بقية أوراق القرعة. فتحت أول ورقة, وجدت اسم زوجي مقيدا بها. ما هذا؟ اسمه مكتوب مرتين؟ فتحت ورقة أخري, فوجدت اسمه مجددا, وهكذا حتي تجسدت الماساة أمامي. لقد شربت المقلب, بل وساهمت في تجسيده وبلورته. طلعت مغفلة بالفعل, ولكن للاسف أن القانون لا يحمي المغفلين, ولا يسفرهم لقضاء عطلة علي شاطئ البحر ولا حتي علي الترعة!