غير مبالية تمتمت وهي تمرق بين الحشد المنتحب من النسوة اللاتي اتشحن بالسواد وهن رائحات وجائيات, يقطعن المسافة التي أمام منزل المتوفية, ونحن الرجال علي مقربة ننتظر إنهاء طقوس التجهيز ومن ثم تشييع الجثمان إلي مثواه الأخير. هي تحمل في يد شنطة كبيرة مليئة بالخضراوات والبقوليات والأخري مليئة بأرغفة الخبز, يبدو جليا أن الحمل ثقيل جدا مثل خطواتها المتعثرة بالكاد تتحرك, لم يرحمها أحد حتي وهي في أحرج لحظات العمر.. فها هي تجوب شوارع المدينة من طلوع الشمس حتي مغربها وفقا لأوامر زوجة ابنها الحمل الوديع التائه الضائع بحثا عن لقمة العيش والتي يجب أن يحصل عليها من بين فكي الأسد, قالت جملتها المقتضبة المفعمة الصادقة بحرقة وألم. سكنت الجملة عقلي وقلبي وكل جوارحي. كأنها أطلقت زخة رصاص من مدفع رشاش في ساحة تجمع ناسا نياما لم تعر الرجال الجالسين المنتظرين في صمت الموتي أي اعتبار.. لم يهز ذلك الموقف المهيب شعرة من شعر رأسها.. أمامنا تخلصت من ذلك الحمل الثقيل والألم القديم, فتحت صفحات كتاب حياتها المثقل الكئيب, قالت مخاطبة النسوة اللاتي يبكين ما بين مجاملة وحزينة علي الفراق. بدل ما تبكو علي اللي ماتوا.. تعالوا ابكوا علي الحيين, دا اللي مات راح واستراح بجرأة وتحت وطأة القهر والقسوة قالت ما نعجز عن قوله.. نردده كل لحظة بداخلنا أصابت كبد الحقيقة ونطقت بما كتمه كلنا, تأثر الحضور كل حسب جرعة البكاء التي يحتاجها لكي يبكي علي نفسه ويرثي حاله, تحركت المياه الراكدة, انهارت جبال الثلج وانفضحت تلك الازدواجية التي نعيشها.. نريد أن نبكي ونتظاهر بالضحك... نكره إلي حد البغض وندعي الحب, نأخذ بعضنا بالأحضان وسيوف الغدر مشهرة, نخاف وندعي القوة, نخون وندعي الشرف والكرامة.. كثيرة هي المعاني التي نعيشها ونقيضها في آن واحد. تحركت الدموع.. أدركت معني ما أرادته تلك العجوز.. أحسست صدق مشاعرها التي هدها التعب. رغم تلك الرغبة الجامحة والتي اعترتني من أجل أن أمشي خلفها وأتحدث معها فهي تخطت السبعين بأعوام ثلاثة, تتشبث عبثا بحياة أوشكت أن يأتي ليلها ويحل ظلامها, لقد ترك عليها الزمن نقوشه.. نقوشا لا تخطئها العين.... ولم المشي خلفها ؟ ولم الكلام معها ؟ فأنا ومن معي.. بل الآلاف والملايين لهم نفس رغبة تلك السيدة, البكاء الواجب علي الأحياء التعساء الأشقياء المهمشين الضائعين الجائعين, أما الأموات فقد ذهبوا إلي الراحة الأبدية إلي حيث الصدق والأمان والعدل المطلق. وانفجر ذلك المخزون الضخم من الدموع.. اكتشفت أنني أعاني من حالة احتقان مزمنة فقد انهارت السدود الوهمية وسقطت أقنعة الكبرياء المزعومة, فقدت القدرة علي التحمل والتجمل, ورحت أبكي كطفل في مشهد لافت.. بحرقة صرت أبكي.. أبكي وأبكي والدموع تنهمر وتنهمر والذين من حولي مثلي انهارت السدود الوهمية الكائنة خلف مآقيهم وسقطت مقولة: كيف للرجل أن يبكي ؟ وراح الكل في نوبة بكاء صادقة.. تغير الموقف الصامت. ثار الرجال الصامتون دفاعا عن كرامتهم الحبيسة وسخن العزاء وعلا صراخ النسوة وبكاء الرجال وحمي وطيس العزاء.. راح كل يبكي علي ليلاه, الكل استجاب لدعوة العجوز التي عرت كل شئ وأظهرته علي حقيقته في لحظة صدق نادرة الحدوث, فتحت الجروح والدمامل المتقيحة, تدفقت أنهار الدموع القديمة الحديثة وسط استغراب النسوة من الصحوة المفاجئة التي اجتاحت الرجال. وكان بالحق وداعا لائقا جدا وغير متوقع لأم صديقي حتي وصلنا إلي مثواها الأخير وهناك رقدت آمنة مطمئنة في رحاب الله, عدنا وعادت معنا كلمات العجوز تسكن الرأس وتفتش عن كل شئ. بعد الانتهاء من طقوس العزاء, سافرت علي الفور إلي حيث قريتي, بينما أنا في الطريق جعلت أحدق في كل الوجوه بإمعان, بالذات في تلك العيون المحمرة المنتفخة الجفون, رحت أتعمق فيما هو أبعد من المرئي كدت أري بأم عيني تلك السدود التي تحتجز خلفها كل ذلك المخزون الوفير من الدموع, دموع بعدد سنين الاختباء خلف معني الرجولة والكرامة والصبر والصمود والرياء واحتمال كل تلك الطعنات من الهم والغم والذل والقهر, إنهم مثلي يحتاجون إلي تلك الرصاصة النافذة والتي تثقب ذلك السد الكائن خلف المقل المثابرة والساهرة علي تلك الهموم طلقة جريئة تتدفق بعدها الدموع لتبلل تلك الأنات والآهات المسكتومة والتي تشهدها لياليهم الطويلة الكئيبة. ما أن وطأت, قدماي أرض قريتي حتي قابلني صديق عمري( سلطان) إبان مرحلة الطفولة والمرحلة الابتدائية ولم يكمل دراسته, وظل يعمل منذ صغره باليومية وتزوج وأنجب خمسة من الأبناء, جري نحوي وكأنه عثر علي نقطة ماء بعد طول عطش أخذني في حضنه وضمني بقوة وقال كلاما متقطعا, الحرف ينطقه علي أكثر من مرة, بينما هو يرمي رأسه علي كتفي,( الحالة.. مفيش شغل الحركة نايمة.. عيال أخوك.. عايز.. ع.... ا... ي....ز!! وتصلبت الكلمة التالية في سقف الحلق وأقسمت ألا تخرج! لم أدعه يغرق في خجله وحرجه......!! قلت له: يا سلطان يا صاحبي... خد اللي أنت عايزه... أنت غال علي.. أغلي عندي من أي طلب مهما كان, فهمت ما يحتاجه, وضعت يدي في جيبي.. أفرغت كل ما فيه ثم أودعتهم جيب سلطان.. والحمد لله أنه كان مبلغا معقولا, وما أن شعر سلطان بما فعلته, حتي عاد ليأخذني في حضنه مرة أخري ورائحة العرق والهم والألم تفوح منه, ثم انهار ذلك السد الوهمي العتيق والذي أنهكته أ يام سلطان سالت دموعه علي كتفي غزيرة, غزيرة جدا, شعرت بدفئها وسخونتها وصدقها وراح يقول: ربنا يبارك فيك ومع كل حرف ترتفع الشهقات إلي عنان السماء ظل يبكي.. ويبكي بحرقة ووجع وأنا أشعر بسعادة بالغة وأنا أقول له: ابك يا سلطان.. خذ راحتك.. البكاء ليس بعيب أو حرام, تخلص من الدموع الفاسدة المحملة بطمي الهم والغم والحسرة, الدموع المتحجرة يا سلطان كالدم الفاسد ما لم تتخلص من العيون فإنها خطيرة جدا. وأخذ سلطان راحته علي الآخر في البكاء, بعد أن أراح ظهره علي جذع شجرة الكافور فوق الترعة والشاهدة علي الطفولة والأيام الطاهرة النقية. يتعالي البكاء وتخرج معه الكلمات الصادقة الملتاعة المشوية علي صاجات العوز والحاجة, الظروف يا صاحبي.. العيال.. الأكل.. الشرب. الخبز الكسوة من فين والبلد مافيهاش شغل.. منهم لله اللي كانوا السبب وورفع يديه لأعلي يقول ويبكي والدموع تواصل انهمارها, لا أدري كم مر من الوقت وهو يتكئ علي جذع شجرة الكافور وهو يقول بحرقة ويبكي. منذ ذلك اليوم وأنا أمارس طقوس البكاء والنحيب والدموع كلما شعرت بشئ من الاختناق والتأزم.. لا أشعر بأي حرج في ترك العنان لدموعي تطفح.. حتي أصدقائي أخذت أشد من أزرهم وأساعدهم لمواراة خجلهم وإنارة المنطقة العتمي والتي تنشئ التضاد بين معني الرجولة والبكاء, ليتمكنوا من أخذ جرعات البكاء بأريحية.. ولكي يقيهم ذلك شر مصائب مؤكدة عبد الفتاح عبد الكريم الأقصر