هل يمكن أن تبلغ بصيرة الفنان هذا الحد؟ قال أسامة أنور عكاشة, في حوار صحفي قبل سنوات, إن المصراوية ستكون آخر أعماله للتليفزيون, وتوقع ألا يكمل أجزاءها الستة التي خطط لها, قائلا: سأضع الأساس والخطوط العريضة, ليكمل بعدي غير. ها هو ما قاله يتحقق, رحل وشيعت جنازته أمس عن(69 عاما) بعد أن قدم جزءين فقط من المسلسل الذي يكمل مشروعه الدرامي العظيم لتشريح المجتمع المصري علي مستويات القرية, والمركز والمدينة واستعراض تاريخ مصر من منظور اجتماعي يهتم بالإنسان أولا.. والأهم: الإجابة علي السؤال الصعب: من نحن؟ فراعنة, أم عرب, أم أفارقة, أم متوسطيون؟ أسئلة شائكة عن الهوية طرحها في أرابيسك, وحاول الإجابة عليها في زيزينيا والمصراوية, وأضافها إلي قائمة من الأسئلة الصعبة التي طرحها علي أبطال أعماله قبل مشاهديها والاختبارات التي أخضعهم لها, مثل اختبار الثروة الذي خضع له بطلا ضمير أبلة حكمت وعفاريت السيالة: ماذا تفعل إذا هبطت عليك ثروة مفاجئة؟ هل مشكلتنا في المال أم في الفكر؟. إزاء شغله الذي ينضح بالأصالة وحب هذا الوطن لم يكن مستغربا أن يكون أكثر شعبية وجماهيرية من الفنانين الذين قاموا ببطولة أعماله, وأن يشد المتفرج إلي الشاشة لسنوات مبتدعا مسلسلات الأجزاء التي كانت كلما تمتد, تظهر تفاصيل لوحاتها البديعة, فقد كان من محبي ورواد الدراما الأفقية المستعرضة القائمة علي توالي الأجيال وتعدد الشخصيات. استحق أن يكون الألفا في مدرسة نجيب محفوظ الدرامية, كما حلم وكما أراد, وتحول شخصياته سليم البدري وسليمان غانم, وحكمت هاشم وبشر عامر عبدالظاهر وفتح الله الحسيني إلي رموز في حياة المصريين مثل سي السيد, وسعيد مهران, ومحجوب عبدالدايم. كنت تزوره في مكتبه بشقته في حدائق الأهرام فلا تجد علي الحائط سوي صورته مع محفوظ, ويستقبلك بكرم أبناء كفر الشيخ. ترجل الفارس الذي قاتل إلي جوار أبوالعلا البشري, ومفيد أبوالغار, ولم يرفع أبدا الراية البيضاء, ورحيله ليس فقط خسارة فادحة, بل وجع في قلب الوطن.