كنت قد كتبت عن الشاعر محمد حلمي الريشة، ليس بصفته رئيس تحرير "مجلة مشارف المقدسية"، الصادرة عن "القدس عاصمة الثقافة العربية" وإنما عن ديوانه الموسوم بعنوان؛ "أيها الشاعر فيّ". ولمزيد من التعرف عليه، أذكر أن له مؤلفات ودراسات أخرى غير الشعر، نذكر منها: زَفَرَاتُ الْهَوَامِشِ (2000). مُعْجَمُ شُعَرَاءِ فِلَسْطِين (2003). شُعَرَاءُ فِلَسْطِين فِي نِصْفِ قَرْنٍ (1950-2000) تَوْثِيقٌ /بِالاشْتِرَاكِ (2004). الإِشْرَاقَةُ المُجَنَّحَةُ- لَحْظَةُ البَيْتِ الأَوِّلِ مِنَ القَصِيدَةِ- شَهَادَاتٌ/ بِالاشْتِرَاكِ (2007). إِيقَاعَاتٌ بَرِّيَّةٌ- شِعْرِيَّاتٌ فِلَسْطِينِيَّةٌ مُخْتَارَةٌ- جزْءَانِ/ بِالاشْتِرَاكِ (2007). نَوَارِسٌ مِنَ البَحْرِ البَعِيدِ القَرِيبِ- المَشْهَدُ الشِّعْرِيُّ الجَدِيدُ فِي فِلَسْطِين المُحْتَلِّةِ 1948/ بِالاشْتِرَاكِ (2008). مَحْمُود دَرْوِيش- صُورَةُ الشَّاعِرِ بِعُيُونٍ فِلَسْطِينِيَّةٍ خَضْرَاءَ/ بِالاشْتِرَاكِ (2008). مَرَايَا الصَّهِيلِ الأَزْرَق- رُؤيَةٌ. قِرَاءَاتٌ. حِوَارَاتٌ (2010). قَلْبُ العَقْرَبِ- سِيرَةُ شِعْرٍ (2014). وفي هذا الديوان يرسم الشاعر الريشة بصمات المرحلة، إذ أنه يرى الغيوم وقحة، والإسفلت مائلًا، والرياح ليست لواقح، والأشجار المثمرة منكسة بلا ثمار، والثلج سابح يستر نهدي مستعمرة صهيونية بشعة على أرض فلسطين، ويكشف عري ردفينا. كل هذه الصور ينقلها من واقعه الحالي في فلسطين، وهو يرى خيوط العنكبوت تُسيِّج الناس بجمال قبيح، وذلك عندما يقول ص 79: غُيُومٌ وَقِحَةٌ تَتَرَاقَصُ هَيْفَاءَ عَلَى الإِسْفَلْتِ المَائِلِ.. رِيَاحٌ، لَيْسَتْ لَوَاقِحَ، نَكَّسَتْ شَجَرَةَ التِّينِ جَارَتِي.. ثَلْجٌ سَابِحٌ/سَارِحٌ يَسْتُرُ نَهْدَيْ مُسْتَوْطَنَةٍ بَشِعَةٍ، وَيَكْشِفُ، آسِفًا، عُرِيَّ رِدْفَيْنَا.. كَهْرَبَاءٌ مَفْقُودَةٌ لَا يَزَالُ البَحْثُ جَارٍ عَنْهَا..(انْقِطَاعٌ، الآنَ، فِي بَثِّي المُعَاشَرِ) مَاذَا أَفْعَلُنِي هُنَا، وَأَنَا مُجَدَّرٌ بِأَثِيرِ هَاتِفِهَا المُهَدْهِدِ لِلشَّوْقِ، بَيْنَمَا وَحْدِي هُنَا؛ تُسَيِّجُنِي عَنْكَبُوتُ الوَقْتِ بِكُلِّ هذَا الجَمَالِ القَبِيحِ؟! إنه لا يرى من أقدام الناس تحت الاحتلال الصهيوني غير القبح، ولا يلتقي سوى بالقدم المبتورة أو الساق العرجاء. ولا نُسلِّم بأيدينا، لأن أيدينا مبتورة بفعل الاحتلال. الحياة تحت الاحتلال مشوهة، حتى أرواحنا مبتورة، ومجتزأة. ولا مقاعد لنجلس عليها، سوى أن نقعد على أنفسنا. إنه يتلاعب بالكلمات بسخرية شديدة؛ إذ يقول: صفحة 84- ادْخُلْ بِقِدَمِكِ أَوْ بِقَدَمِكَ، أَيُّهُمَا تَشَاءْ؛ المَبْتُورَةِ أَوِ العَرْجَاءْ- فَمَا مِنْ بَابٍ لَنَا وَلَا عَتَبَةٍ (سِوَى عَتَبِنَا عَلَيْكَ)، وَلاَ مَقَاعِدَ لَدَيْنَا (سِوَى قُعُودِنَا عَلَيْنَا بِانْتِظَارِنَا/انْتِظَارِكَ كَأَيِّ لَا شَيْءٍ). اُدْخُلْ، أَيُّهَا العَامُ الفَائِضُ عَنِ الحَاجَةِ/حَاجَتِنَا، وَلكِنْ (وَلَا نَعْتَذِرُ) لَنْ تَجِدَ فِينَا يَدًا لِتُسَلِّمَ؛ فَكُلُّهَا مَبْتُورَةُ الرُّوحِ، أَيْضًا! وتشدك في أشعار هذا الديوان "أيها الشاعر فيّ" انزياحات شعرية، وتعالقات لهذا الشاعر مع عوالم أخرى، أو أناس آخرين، سواء كانوا شعراء عالميين، أو شخصيات تاريخية، أو من تربطهم به علاقة إنسانية، ففي قصيدته صفحة 42 نقرأ انزياحًا تعبيريًا بلاغيًا، وكأنه يتغزل بزوجته قائلًا: " كَأَنِّي أَسْمَعُ صَوْتَ قَهْوَتِكِ- الصَّبَاحِ، وَهِيَ تَرْفِلُ نَحْوِي بِخُطَاكِ اليَاسَمِينِ، تُغَنِّي فِي حَلْقِي نَشِيدَكِ الرَّشَفَاتِ- يَا امْرَأَتِي الأَكِيدَةُ، وَالوَحِيدَةُ؛ والتي مُنْذُ الهَاتِفِ الأَوَّلِ الَّذِي شَذَّبَ أَعْشَابَ الأُذُنِ، وَهَيَّأَ الحَدِيقَةَ- القَلْبَ لِلفَاتِنِ الأَبَدَيِّ." فأنت تشم رائحة القهوة بطريقة الشاعر، وليست بطريقتك أنت، إذ أن تلك الرائحة قوية لدرجة تعلن عن نفسها، فتسمعها، بينما تحضرها له زوجته كل صباح، فتغني في حلقه رشفات القهوة. تلك الزوجة التي منذ الهاتف الأول الذي تعرّف به عليها، وهي حديقة القلب، والفاتنة الأبدية له. إنه وفاء الزوج للزوجة التي بمرورها تعطر المكان برائحة الياسمين. وبينما تواصل الشاعر متنافرًا مع الغساسنة والمناذرة في إحدى قصائده، ومحتقرًا الوطء عليهما، نجده في ص44 يتواصل متناغمًا مع جماليات شعر (بول إيلوار) ويمد جسور الشعر معه، ليعرفنا على أن الشعرفن عالمي لا يعرف الحدود، فيقول على لسان الجميلة، التي لا تشعر أن جمالها أخاذ إلا حينما يحممها سيدها. فهي بين يدي شاعرها تغدو جميلة، وبدون وجوده لا تشعر بكيانها الجميل. وهذا يوضح أن الجمال لا يرى إلا بعيون الآخرين. وهذا يذكرني بأسطورة تلك النرجسة التي أحبت جمال نفسها، وراحت تنظر إلى نفسها في مرآة البحيرة، فغرقت وماتت، ولم تبق آيات جمالها، حيث أن الجمال لا يُستشعر إلا في نظر المحب: " لِمَاذَا أَنَا جَمِيلَةٌ هكَذَا؟ لِأَنَّ سَيِّدِي يُحَمِّمُنِي." أَنَا.. قَصِيدَتُهُ اللَّعِينَةُ، وَهُوَ.. مَاكِرِي. وفي صفحة 49 يقول : مُنْذُ أَنْتِ.. تَغَيَّرَ طَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيٍّ؛ شِينُ الشَّهْدِ الشَّفِيفِ..شِينُ النَّشِيدِ الأَبْيَضِ. .شِينُ (شِعْرَزَادِي)* ِ وهكذا هو الشاعر الريشة، الذي صار طعم كل شيء لديه شهيًا منذ بدء تعلقه بها، تجده يتواصل مع التراث، ويتكامل مع شهرزاد، فيرى شهرزاد على أنها شعرُ زاده، إذ يقول: *شِعْرَزَادِي: اسْمٌ حَوَّرْتُهُ مِنَ الاسْمِ (شَهْرَزَاد)، وَهذَا الاسْمُ المُحَوَّرُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ، يُمَثِّلُ المَعْشُوقَةَ/القَصِيدَةَ، فُرَادَى وَمَعًا. وهو عندما يكتب القصيدة إنما يرى أن القصيدة معشوقته، ويكتب الحبيبة، فتحمر وجنتا القصيدة، وترتجف شفتاها ألقًا. وهنا تندغم القصيدة بالحبيبة وتتوحدان معًا متماهيتان في كيان واحد، إذ يقول ص 60- تَحْمَرُّ وَجْنَتَا قَصِيدَتِي حِينَ أَهِمُّ بِكِتَابَتِهَا/كِتَابَتِكِ أَنْتِ.. تَرْتَجِفُ شَفَتَاهَا أَلَقًا كَمُرَاهِقَةٍ فِي العِشْرِينَ مِنْ عِطْرِهَا يَخْفُقُ قَلْبُهَا رِيشَةَ حِبْرٍ تَتَمَاسَكُ فِي ذُرَى رِيحِ النَّشِيدِ تُحِسُّ بِالتَّوَاضِعِ السِّرِّيِّ حِينَ أَنْشُرُهَا أَمَامَ أُبَّهَةِ حَضْرَتِكِ الشِّعْرُ الَّذِي يُكْتَبُنِي لِأَجْلِكِ؛ يُشعِرُني بِأَنِّي لَسْتُ شَاعِرَهُ، بَلْ أَنْتِهِ فِيَّ! هذه الأحاسيس الشعرية لا يشعر بها سوى الشاعر كما كتب في مقدمة ديوانه، إنه يشعر بأنه ينشر الحبيبة إذ ينشر القصيدة ..وأن الشعر هو الذي يكتبه ولكن بمشاعرها وبأدائها، وليس بقلمه هو، وليس هو الذي يكتب الشعر، بل "القصيدة الحبيبة معًا" هي ملهمته، وكاتبته وناشرته، إذ تنشر نفسها فيه. ولا أنسى أن أوضح أن للشاعر الريشة، أَعْمَالا مُتَرْجَمَةُ نذكر منها: لِمَاذَا هَمَسَ العُشْبُ ثَانِيَةً- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ مِنْ "مُشَاهَدَةُ النَّارِ" لِلشَّاعِرِ كِرِيسْتُوفَرْ مِيرِيلْ (2007). بِمُحَاذَاةِ النَّهْرِ البَطِيءِ- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ وَقَصَصِيَّةٌ (2010). مِرْآةٌ تَمْضُغُ أَزْرَارَ ثَوْبِي- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ لِشَاعِرَاتٍ مِنَ العَالَمِ/ بِالاشْتِرَاكِ (2011). أَدْخُلُ أَزرَقَ اللَّوْحَةِ فَيَسْحَبُنِي البَحْرُ- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ مِنَ العَالَمِ. (2013). الخَرِيفُ كَمَانٌ يَنْتَحِبُ- شِعْرِيَّاتٌ مُخْتَارَةٌ مِنَ العَالَمِ (2013).