في زمن غير زماننا منذ 97 سنة كان الدولار غير موجود في سياسات النظام العالمي، ومنها مصر، التي كان يساوي الدولار آنذاك مقدار 20 قرشا بعملتها المحلية المتداولة، التي كانت تعتمد على صناعتها، وما تصدره من زراعات للأسواق العالمية، ومنها القطن. لم يكن الدولار أيضًا في ثلاثينينات القرن الماضي متحكمًا في السياسات الدولية العالمية من خلال أرصدة البنوك ورجال الأعمال و ومحلات الصرافة والبورصات المحلية والعابرة للقارات، كما تدل الوثائق النادرة التي حصلت عليها "بوابة الأهرام"، والتي تخص قيام المواطن البسيط أحمد لطفي حمودة، من الإسكندرية، والذي تبرع بأن يكون متطوعا لإنقاذ اقتصاد وطنه وصناعتها، بعد أزمة طاحنة في انخفاض أسعار القطن في الأسواق. لمدة سنتين، من عام 1934 حتى عام 1936م، تبرع المواطن أحمد لطفي حمودة لجمع القرش لإحياء الصناعات المصرية، في وقت عانت فيه مصر من أزمة اقتصادية طاحنة، دعت مفكرين في الأحزاب المدنية وأعيان وزعامات للدعوة لإنقاذ الاقتصاد المصري. تبنى الدعوة لتأسيس جمعية القرش، كما تؤكد الوثائق التاريخية، ويقول الباحث التاريخي محمود حجاج، السياسي أحمد حسين، مع الكاتب الصحفي فتحي رضوان، لحث كل مواطن مصري على أن يتبرع بقرش واحد لإنقاذ الاقتصاد المصري، مضيفًا ل"بوابة الأهرام" أن السياسي أحمد حسين كان يطمح في نشر روح الصناعة الوطنية في كل مكان في مصر. وأظهرت الوثيقة أن جمعية القرش، التي افتتحت فرعا لها في الإسكندرية، كان مقرها 25 شارع إبراهيم باشا، رقم 5، ميدان الخديو إسماعيل بكوم الدكة. كان على أحمد لطفي حمودة أن يتزين بالطربوش، وأن يلتقط لنفسه صوره تذكارية؛ فالجمعية التي يتطوع لها خرجت للوجود في وقت معركة الطربوش الشهيرة، التي كانت ترى من العار للمصريين أن يستوردوا أزياءهم من الخارج، ومنها الطربوش، الذي تم إيقاف مصنعه، الذي أنشأه محمد علي باشا ضمن كثير من المصانع إثر تحالف الدول الغربية ضد مشروعه في مصر عام 1840م، حيث كان يمثل الطربوش حركة مقاومة للشباب، وهي المقاومة التي أسفرت عن قيام جمعية القرش بتأسيس مصنع في العباسية ينتج الطرابيش المصرية. كان حمودة، الذي صمم مثل أبناء جيله بحسه الوطني على أن يجمع القروش الصاغ، والذي ارتدى التقليعة المعروفة للطرابيش؛ والتي استبدلت اللون الأخضر بالأحمر، حيث علم مصر آنذاك. يعيش في شارع الكوارش نمرة 5 محرم بك مديرية الإسكندرية، وهو العنوان الذي دونه في الطلب الذي قدمه لفهمي بك ويصا، أحد أقطاب السياسة المصرية آنذاك في حزب الوفد، والذي كتب أمام اسمه الألقاب الملكية: صاحب العزة، والذي كان يشغل منصب رئيس اللجنة بعد رحيل أحمد حسين. كان حزب الوفد رافضًا لجمعية القرش، رغم نجاح المتطوعين أمثال حمودة الإسكندراني في جمع مبلغ يربو على 30 ألف جنيه في مدة عامين، وهو مبلغ خرافي في عصره، وتقديم المبلغ للحكومة المصرية التي كانت تساند دعوات الشباب ومشاركتهم في إنقاذ الاقتصاد المصري، إثر انخفاض أسعار القطن، الذي كان يمثل عصب الاقتصاد المصري آنذاك. وبعض أعضاء حزب الوفد انتهزوا فرصة طرح أول طربوش تم إنتاجه في مصنع مصري ونظموا مظاهرة ضد المؤسسين للجمعية، أمثال أحمد حسين، رافعين شعار يسقط حرامي القرش، وأجبروه على الاستقالة من منصب رئيس اللجنة بعد اتهامات له باختلاسات مالية. قام حمودة بالبحث عن ضامن يضمن حسن تطوعه وتفانيه في جمع القروش في استمارة التطوع في جمعية القرش، التي رفعت شعار "تعاون وتضامن في سبيل الاستقلال الاقتصادي"، حيث أظهرت صورته اهتمامه بالتقاط صورة له وهو يرتدي البدلة الكاملة والطربوش، ثم قام بكامل حريته بالإمضاء بخطه على الاستماره باسمه الثلاثي وعنوانه. ورغم نجاح جمعية القرش، وانضمام آلاف المتطوعين في كل محافظات مصر إلى المشروع الذي حظي بدعم الكثير من الأحزاب باستثناء الوفد، وحظي بدعم الحكومة والشعراء الكبار أمثال أحمد شوقي الذي أنشد قصيدة للشباب المتطوع، رغم ذلك فقد ظهر معارضون للمشروع، كما يؤكد الباحث محمود حجاج مشيرا إلى أنه من ضمن المعارضين للمشروع كان عميد الأدب العربي طه حسين، الذي وصفه بأنه هروب للشباب من ثورة الفكر. أحمد حسين مؤسس جمعية القرش قال في تصريحات صحفية آنذاك "لما كانت الصناعة تحتاج إلى رءوس أموال، لم أشأ أن تُجمع رءوس الأموال من بضعة أفراد؛ بل رأيت أن مما يحقق غايتها بكمالها أن يساهم الشعب مجتمِعا في إنشاء هذه الصناعات القومية؛ ليظل حريصا على تشجيعها فيما بعد". فقد كان يؤمن بمشاركة الشعب في امتلاك صناعته، وهي الدعوة التي لقيت صداها في أوساط المتطوعين. كانت الاستمارة تضع شرطا مهما وهو الضامن الذي يضمن المتطوع، حيث كان على الضامن أن يشهد أن البيانات التي وضعها المتطوع صحيحة، بل كان عليه أن يؤكد أنه سيقوم بتسديد عهدته إذا قصر عن تسديدها المتطوع، مما يعني أنه سيقوم بدفع الأموال التي أخذها المتطوع من المواطنين، ويقدمها للجمعية التي كان واجبا عليها أن تقوم بدفعها لمؤسسات الدولة، ومنها الوزرات، لإنشاء المصانع وإنقاذ الاقتصاد المصري. قام المواطن عبدالعزيز نجم، الذي يعمل مدرسا بمدرسة محمد علي الصناعية بالإسكندرية، بضمان المتطوع أحمد لطفي حمودة، بل قام عبدالعزيز بوضع خاتم المدرسة التي تم إنشاؤها في طراز معماري فريد عام 1904م، ووضعه على استمارة تطوع أحمد لطفي حمودة، الذي كان عليه أن يكون بطلا مجهولا من الأبطال المصريين الذين شغلهم إنقاذ اقتصادهم الوطني في زمن لم يكن الدولار يتحكم في اقتصاد مصر، بل أسعار القطن، لتكون استمارة تطوعه دليلا على وطنيته الخالصة في المشاركة في إنقاذ اقتصاد وطنه بالدعوة لإنشاء صناعات مصرية تكون مملوكة للشعب.