عندما قام النظام النيابي في شكله الحديث للمرة الأولى في تاريخ مصر عام 1866، كان من الضرورة أن تخطو مصر الخطوة التالية وهي قيام نظام دستوري يضع قواعد الحكم التي تنظم مستقبل الحياة السياسية في مصر. وكان لا بد كذلك أن تأتي هذه الخطوة بثورة، تشاركت فيها كل قطاعت الشعب وراء الزعيم أحمد عرابي، أثمرت في النهاية أنه تمت كتابة "اللائحة الأساسية" كأول ما يمكن أن يطلق عليه دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين وقيض الله وقتها لمصر شريف باشا وهو رجل كان من أكثر المصريين إخلاصا، ذلك الرجل الذي لم تحل أصوله الشركسية أن يكون بانيا للجسر الأول الذي نقل مصر رسميا إلى المرحلة الدستورية، فقد كان أول من طرق هذا الطريق ليهديه إلى المصريين. ومع أن اللائحة الأساسية لم تحو إلا موادا تنظم عمل مجلس شورى النواب وكيفية انتخاب أعضائه وعلاقتهم بمجلس النظار"مجلس الوزراء "، إلا أن مجرد صدورها في 7 فبراير 1882 ممهورة بخاتم الخديوي توفيق ونظاره، كان اعترافا رسميا بسلطات الشعب ممثلا في نوابه، ولكن نظرا لطبيعة المرحلة التاريخية لم تنص اللائحة في موادها الاثتين والخمسين على أحكام عامة أو انتقالية للدولة ولاعلى ملامح الحكم، ولم تتعرض من قريب أو من بعيد لسلطات حاكم مصر ولا تطرقت إلى طرق انتقال الحكم. وربما كان السبب وقتها، أن مصر كانت تخطع لسيادة اسمية من تركيا ولكن على أية حال لم يدم الحكم بالدستور أو مجلس شورى النواب سوى شهورا معدودة لأن التجربة أجهضها الاحتلال البريطاني الذي كان يعلن قبل غزوه أنه حامي حمى الحريات وكان الحزب الحاكم في لندن وقتها هو حزب "الأحرار" البريطاني. فبريطانيا التي كانت قلعة الحكم النيابي في العالم، كان أول عمل لها في مصر هو أنها ألغت مجلس النواب المصري، ووجدنا رائدة الليبرالية تقوض بيديها أول تجربة دستورية في مصر على تواضعها حين ذاك. وترى .. كم عاني المصريون حتى يعيدوا كلمة دستور إلى الحياة السياسية المصرية؟. 41 عاما متصلة عانى فيها المصريون كل أنواع العسف مابين محتل غاصب يري في الوطنيين مثالا في التعصب والتخلف وبين حاكم موصوم بالخيانة أو الضعف أو الاستكبار والعنت والغباء. وجاءت التجربة الدستورية الثانية في 19 أبريل عام 1923 لتثمر عن واحد من أشهر الدساتير المصرية استجابة ل4 سنوات من الثورة منذ قيامها في 1919 ليخرج الدستور للمرة الأولى اسما وفعلا. ورأى قادة ثورة 19 مع سعد زغلول خروقا كثيرة أخذت على الدستور لأنه أعطي سلطات واسعة للملك مما يجعله حاكما مستبدا، فهو من حقه حل المجاس النيابية بجرة قلم. كما أنه رغم توسيعه للحريات الدينية والسياسية والصحفية، إلا أنه نص في مادته رقم 33 على أن الملك هو رئيس الدولة الأعلى و"ذاته مصونة لا تمس"!. ورغم هذا العوار، فقد صعد سعد زغلول في يوم 28 يناير 1924 إلى كرسي الحكم بعد أول انتخابات جرت في ظل هذا الدستور ليكون أول رئيس وزراء لمصر بانتخاب من الشعب. ولكن سرعان ما تم إجهاض التجربة الفريدة والرائعة في تاريخ مصر بحادث السير لي ستاك الغامض في 20 نوفمبر من العام نفسه وبعدها بأربعة أيام يستقيل سعد. ولم تحل الحريات التي نص عليها دستور 23 من أن تزور الانتخابات ويعطل البرلمان في الحكومات التالية حتى تفتق ذهن إسماعيل صدقي خصم سعد اللدود - رغم ما كان بينهما من كفاح مشترك فيما قبل- عن تحضير دستور جديد على مقاس حذاء الملك فؤاد، دستور يجعله فوق كل شيء ويفعل أي شىء فلا برلمان ولا حرية ولا حقوق لأحد وظل دستور صدقي المعروف بدستور 30، جاثما على صدر الشعب حتى اضطر الملك نفسه إلى إلغائه تحت ضغط المظاهرات العارمة التي اجتاحت مصر في منتصف الثلاثينيات وسالت فيها دماء شبابها من الطلاب برصاص حكومة الملك. وعاد دستور 23 لا لأنه الأفضل ولكن لأن غيره كان الأسوأ. ومع طنطنة البعض لليبرالية دستور 23 ذي ال170 مادة وتقديسه لذات الملك تلك القداسة التى ألقي بسبب المساس بها الأحرار في غياهب السجون وأشهرهم عباس العقاد، إلا إن حزب الأغلبية الكاسحة منذ صدوره وحتى إلغائه على يد ثوار يوليو لم يتمكن من الحكم إلا سبع سنوات متفرقه على 29 سنة هي الفترة مابين صدوره وحتى إلغائه، فلم تغن ليبرالية 23 ولا نصه على الحكم النيابي عن العبث بالحياة السياسية ومحاولات سحق الحركة الوطنية شيئا. بل ارتقى كرسى الوزارة تحت ظل من الدستور الملكي -معطلا أو مفعلا- رجال فيهم المجرم الذي زور الإرادة الشعبية وألقي بصناديق الانتخابات في النيل تحديا للإرادة الشعبية أو الذى أطلق على زهرة شبابها الرصاص في المظاهرات سواء في الثلاثينيات أو الأربعينيات أو الذى تملق الإنجليز واضعا مصالح الشعب تحت قدمي الملك أو الذي ضحى بالجيش المصري في فلسطين. كل ذلك تم في ظل دستور.. 1923 ليس لأن الدستور هو الذي كان فاسدا ولكن لأن النظام الفاسد لا يجدي معه أي دستور مهما كانت ضماناته. وجاءت ثورة يوليو لتكتفي بإعلانات دستورية اتخذها قادتها كمرافىء لإسباغ الشرعية على ما تتخذه الثورة من إجراءات وحدث النزاع المرتقب مابين مؤيدي انتهاء العهد الملكي لما رأوا أن ليبراليته كانت غير ذات جدوى لتحكم وطغيان رأس المال والرموز المنتمية للعهد السابق والذي نشأت ضده مواقف أشبه ما تكون بالعقد النفسية وبين المطالبين لحرية حقيقية ووجدوا في ثورة يوليو فرصة للتطهير وليست للهدم تجاه كل ماسبق. وحتى دستور 54 الذي صاغه العلامة الكبير عبد الرازق السنهوري لم يعمل به! وظل فقط صالحا للاستخدام كوثيقة تاريخية ليس لها أثر حقيقي في ليل مصر ونهارها. فكل ما راج من إعلانات دستورية أو دساتير مؤقتة لم يزدد تأثيره على ذلك. وكانت النتيجة أن مصر منذ إلغاء دستور 1923 لم يكن يحكمها أي نظام دستوري ثابت أومستقل وظل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يحكم بلا دستور حتى وفاته. غير أنه لم يكن طلب وضع دستور جديد ملحا من لدن الشعب أوحتى النخبة التي أنتجتها الثورة، وذلك منذ حادث الاعتداء الشهير على السنهوري أمام مجلس الدولة في واقعة مؤسفة يؤرخ لها بأزمة مارس 54، حينما هتفت الجماهير بسقوط الديمقراطية التي ارتبطت شرطيا لدى كثير من فئات الشعب بالفساد السياسي والاجتماعي قبل يوليو. حقا كان الطرح خاطئا كما بدا للمطالبين بالديمقراطية نفسها. بل ساد اعتقاد بأن رموز العهد القديم سيعودون بالانتخابات لأنهم كانوا الأكثر خبرة بالألاعيب الانتخابية فما أشبه الليلة بالبارحة. وجاء أنور السادات بدستور 71 وظل الدستور مرضيا عنه أو على الأقل لم تخرج مظاهرة واحدة تهتف ضده في كل المظاهرات التي قامت ضد السادت، بالرغم من أن الدستور صدر متأثرا بالحكم الشمولي الذي ارتضي به غالبية الشعب وراء عبد الناصر ولم يطالبه بدستور يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم . فلم تبد الصورة الشنعاء للدستور إلا بعد إجراء التعديل الكارثي في عام 80 والذي رام السادات من ورائه تجديد مدد رياسته بلا حدود ناسيا مع الأسف وعدا قطعه على نفسه أمام الجماهير وعلى شاشات وسماعات التلفزيون والراديو بانه لن يجدد الفترة. وعلى أي حال لم ينعم السادات بتعديله فلم يمهله القدر واغتيل في المشهد المثير الذي لا ينساه من عاصره. والذي استفاد هو خليفته حسني مبارك الذي لم تلجئه الحاجة لتعديل الدستور لمدة قاربت ربع القرن إذ استفاد بتعديل السادات للدستور. ولكن لما عندما تم طرح موضوع التوريث- بالمناسبة شارك في الطرح مفكرون وكتاب وإعلاميون تتعالى الآن أصواتهم بالمطالبة بالدستورالجديد - كان من الضرورة إجراء تعديلات تتيح لمبارك قصر الرئاسة على ابنه وربما نسله من يعده، فتمت الإجراءات الكارثية الأخرى بتعديلات 2005 و2007 التي حذر منها الكثيرون من كل اتجاه وتيار سياسي تقريبا. ولأن مبارك كان يحكم مصر بقوة القهر واستطاع ان يلهى الشعب بصراعات لقمة العيش أو التناحر بين القوى السياسية في ظل قانون طواريء ارتبط بمجيئه، فقد مرر هذه التعديلات التي دلت على الضعف والاضطراب أكثرمن القوة والثبات، واكتفت بعض القوى السياسية إما باليأس أوبثرثرة الصالونات والمؤتمرات أو بالمداهنة، حتى سقط مبارك ليترك الشعب في مجادلات حول الشرعية الدستورية أو الشرعية الثورية ونزاع كلامي مابين المقاهي ومواقع الإنترنت يكاد يهدد ثورته الأخيرة، بينما يغفل الكثيرون أن شرعية المصلحة العليا للبلاد هي التي تبقي الحكام أوتعصف بهم وهي التي تصدر الدساتير أو تلغيها منذ صدور أول دستور برعاية شريف وإلى أحدث دستور في ظل حكومة شرف. فالتاريخ المصري مع الدساتير من شريف إلى شرف، يؤكد لنا أن الدستور لا يحمي الشعب وإنما الشعب هو الذي يحمى الدستور، فيمكن لخديوي أو ملك أو رئيس أن يلغي أو يعدل أي دستور أو يفسده أيا كانت مواد هذا الدستور محصنة ضد العبث، فالشعب الذي لا يحمي الدستور لا يحميه أي دستور.