يمسك "كراس جرجس" بالهلال مبتسما ،وهو يتهيأ لتثبيته على حافة المنبر الذي قارب على الانتهاء من صنعه في ورشته ،المتفرعة من شارع توفيق الحكيم بمدينة نجع حمادى، قبل أن يحكي قصة واقعية أبعد ما تكون عن الشعارات. بعد مذبحة نجع حمادى الشهيرة، غير كراس جرجس من ورشته ،التى كان مصيرها تحطم عدة منابر، كان يعدها لمساجد الله على يد المشاغبين، ومن ثم غابت عن الوجود ورشته، التى كانت قبلة للمسلمين، الذين يطلبون صناعة المنابر للمساجد الاسلامية ،وتحولت الى ورشة داخلية فى شارع جانبى، ظل المسلمون يقصدونها ،لأنهم لم يستطيعوا الاستغناء عن أيدى كراس المسيحى ،الذى يصنع لهم منابر تصدح بابتهالات لله. يبدو كراس جرجس ميخائيل، النجار المسيحى شخصية محبوبة لدى المسلمين، الذين يرونه شخصا متفانيا فى عمله، ومبدعا لأروع المنابر الإسلامية فى محافظة قنا بصعيد مصر. يتذكر كراس أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، عندما بدأ بصناعة المنابر: "أنا كانت تعجبنى صداقة الزعيم للأنبا كيرلس السادس، لو شفت صورتى مع جمال عبدالناصر كان الريس بيشرب فى قلة فخار وأنا كنت وراه" . يسترسل كراس: صناعة المنابر تعلمتها فجأة، حين جاء أحد المسلمين يطلب منى أن اقوم بصنع منبر لمسجد، قام ببنائه بمجهوداته الذاتية ،وتفوقت على نفسى، وشعرت بان الخشب سيكون ممتعا، لو طعمته بفنون إسلامية عالية، كفن الأرابيسك، ولكن لاأكذب عليك، إخوتى المسلمون،ومحبتى لهم جعلتنى أنفذ مايطلبون . "فى عام 1984م ذهب ابني إلى الجيش، وغاب، فقلقت عليه جدا ،ولم تكن الاتصالات سهلة ،ورأيت كوابيس، وكنت لا أستطيع العمل، ولكنى كنت مضطرا للانتهاء من منبر أقوم بوضعه فى زاوية المسجد، وهناك حين أنهيت وضع المنبر، بكيت بشدة بين إخوتى المسلمين، فوقفوا يواسوننى، ويدعون لى فى المسجد أن يرجع لى ولدى، وأخذت أبكى معهم، وأقول يارب، أنا فى بيتك، انت يارب بيوتك المساجد، والكنائس فجيبلى ولدى، وفعلا بعد يومين أخذ ولدى إجازة وعاد". حصل ابن كراس على قطعة أرض، لأنه من خريجي الزراعة، وكان قد نذر على نفسه فى المسجد "لو رجع ابنى سالما، أتنازل عن ثلث أجري، لأى مسجد أقوم بصنع منبر فيه ،وإلى الآن أوفي بهذا النذر. ويضيف :"لا أعرف كم مسجدا قمت ببناء منبر فيه، فهى كثيرة جدا، ولكنى أعتز بمنبر صنعته، لمسجد عبد الرحيم القناوى بعد التجديدات الحالية". يستمتع كراس بصناعة الأرابيسك ،رغم أنه مرهق : "أى منبر مهما كان حجمه، يأخذ منى 20 يوما"، ويدخل كراس بعد الانتهاء من صناعة المنبر، لوضع زاوية القبلة بنفسه: "أتعاطف مع أى مسجد بُنى بالجهود الذاتية، ولوكانت معى فلوس، أتبرع له.. فالناس رغم أنها فى مجاعة ،فإنها لاتستطيع أن تستغنى عن ربنا اللى بتعبده". يرى كراس أن من يحرقون دور العبادة "دول مجانين، ياولدى أولاد مصر،هم اللى بنوا الكنائس والمساجد والأديرة، ودول مش مصريين، المصرى الحقيقى، هو اللى يبنى لأخوه المصرى مكانا لديانته، بغض النظر عن أنه يكون مسلما أو مسيحيا". يرفض النجار المسيحي البسيط أى تكريم من أى هيئة ،حتى لوكان من المحافظ أو الوزراء " علشان أنا مصرى، ودور المصرى أنه يبنى لأخوه دورالعبادة ..هو الواجب ليه تكريم، أنا بأعمل الواجبه، ولوفهمنا كده، هيبني المصرى المسلم لأخوه المسيحى كنيسة، والمصرى المسيحى يبني لأخيه المسلم مسجدا". لا يمكن أن تتخيل سماحة النجار الصعيدي، إلا إذا سمعته يقول: "يكفى أننى أخدت أجرا من ربنا فى بنائى للمنابر".