أعرف مدى تعاطف قطاع عريض من الرأي العام مع الطالبة مريم المتفوقة، التي حصلت على صفر في الثانوية العامة، وأدرك مدى صعوبة تصديق أن طالبة متفوقة يمكن أن يتدهور مستواها لحد "الصفر"، وهو ما يرجح وجود خطأ ما، وربما مؤامرة على الطالبة، زاد من ذلك أن قطاعين كبيرين سعيا لتعزيز فكرة المؤامرة، الأول هو جماعة الإخوان وأتباعها، الذين يريدون تأكيد انتشار الظلم والتخبط، ثم قطاع من الأقباط الذين يرون الواقعة نموذجًا لما تعرضوا له من مظالم، ناهيك عن قطاع عريض آخر لا يريد أن يرى دموع مريم الموجعة، ويتعاطف معها إنسانيا، ويتمنى أن تخرج من محنتها. أتفهم هذه المشاعر، لكنها قد لا تجعلنا ننظر للواقعة بشكل مجرد وواقعي، فموضوع تبديل ورقة إجابة واحدة غاية في الصعوبة والتعقيد في نظام الكنترول، فكيف يكون الحال عند تبديل كل أوراق إجابة طالبة بعينها في جميع المواد، إنه عمل انتحاري يحتاج إلى كتيبة من المخترقين لنظام الكنترول، ثم لماذا جميع أوراق مريم بالتحديد؟ فهي ليست الأكثر تفوقا عن غيرها، وهناك من هم أفضل مستوى منها، ولماذا يتم تبديل أوراقها هي فقط، وهو ما يجعل الموضوع مكشوفا ومفضوحا، وكان يمكن التنويع، خاصة أنه الأسهل؟ أما المستفيد من تبديل أوراق إجابات مريم فإنه شديد الحماقة بالتأكيد، لأنه اختار الوسيلة الأصعب والأكثر خطورة، ليحصل على مجموع كبير، وهناك وسائل أسهل بكثير، وهي شائعة الحدوث، منها تسريب الأسئلة، أو دس أوراق إجابة جديدة، بدلا من تبديلها مع طالب أو طالبة من المتفوقين، لن يصمتوا بكل تأكيد، وهناك أجهزة اتصال صغيرة جدا، يمكن لأي ابن مسئول أو أي ثري أن يدخلها معه لجنة الامتحانات ويستمع إلى الإجابات الصحيحة، ليكتبها في ورقته. لقد اخترنا السيناريو الأصعب لنصدقه، ربما لأن قطاعًا من الناس تعرض إلى مظالم، وربما هناك قطاع من الطلاب لم يحصلوا على المجموع الذي تمنوه أو توقعوه، وكذلك هناك من فقدوا الثقة في بعض مؤسسات الدولة، نتيجة انتشار الفساد في بعض القطاعات، المهم أن هناك مبررات كثيرة تجعلنا نصدق قصة تبديل أوراق إجابات مريم، حتى لو أثبت الطب الشرعي عكس ذلك، وتأكيده أن أوراق مريم لم يتم تبديلها، وأن خطها في جميع أوراق الإجابة هو هو نفس خطها الحقيقي بكل الأدلة، ومن خلال خبراء مختصين في التزوير ومضاهاة الخطوط. لقد تعرضت مريم لظروف نفسية صعبة لوفاة والدها، ولأنها اعتادت التفوق، وكان من الصعب أن تحافظ على تفوقها، ربما أصيبت بأزمة نفسية خلال الامتحانات، وفضلت عدم الإجابة عن تحقيق معدلات لا تليق بها وبأحلامها والمتوقع منها، وهذا يحدث كثيرا، لكن لم يحدث من قبل أن جرى تبديل أوراق إجابة في كنترول الثانوية العامة. هل يمكن أن ننظر بموضوعية وتجرد لمشكلة مريم؟ أم أننا نفضل خلط الأوراق، وتصديق روايات قد تكون مستحيلة، لأنها فقط قد تريح البعض، أو قد يستغلها البعض الآخر، فتتحول إلى أسطورة ليس لها علاقة بالواقع. إنني بحكم عملي الطويل في حقل التعليم والامتحانات أرى من واجبي أن أضع هذه الحقائق أمامكم، ليس دفاعا عن وزارة التربية والتعليم التي أرى أن بها الكثير من القصور، وأتمنى أن يحظى التعليم بما يستحقه، لانتشاله وانتشال مستقبل مصر من هذا المستوى المتدني المليء بالمشاكل، وإنما أردت أن نستعيد قيم التجرد والعقلانية في النظر إلى مشكلاتنا، وهي كثيرة، حتى نستطيع أن نجد لها حلولا واقعية. لمزيد من التفاصيل إقرأ أيضًا :