جامعة سوهاج تحصد المركز الخامس في المسابقة القومية للبحوث الاجتماعية بحلوان    مرصد الأزهر :السوشيال ميديا سلاح الدواعش والتنظيمات المتطرفة    اللجنة العامة لمجلس النواب تختار سحر السنباطي رئيساً للمجلس القومي للطفولة والأمومة    بدء الجلسة العامة لمجلس النواب لاستكمال مناقشة الحساب الختامي    أسعار العملات العربية مقابل الجنيه بالبنك الأهلي اليوم الأربعاء    ‫الإسكان: إجراء قرعة علنية للمتقدمين لحجز شقق بمشروعات جنة والإسكان المتميز يوم 15 و 16 مايو    محافظ سوهاج يتفقد إجراءات التقدم بطلبات التصالح على مخالفات البناء    فيراري تطلق أيقونتها 12Cilindri الجديدة.. بقوة 830 حصان    ماليزيا: الهجوم على رفح يؤكد نوايا الاحتلال في مواصلة الإبادة الجماعية للفلسطينيين    سلطات الاحتلال تعيد فتح معبر كرم أبو سالم    كييف: روسيا تفقد 477 ألفا و430 جنديا في أوكرانيا منذ بدء الحرب    زعيم كوريا الشمالية يرسل رسالة تهنئة إلى بوتين    "فينيسيوس أمام كين".. التشكيل المتوقع لريال مدريد وبايرن قبل موقعة دوري الأبطال    "لابد من وقفة".. متحدث الزمالك يكشف مفاجأة كارثية بشأن إيقاف القيد    أتربة ورمال وتحذير للمواطنين.. الأرصاد: تقلبات جوية وارتفاع الحرارة لمدة 72 ساعة    طلاب أولى ثانوي بالقاهرة: لا أعطال بمنصة الامتحان على التابلت والأسئلة سهلة    بالأسماء.. إصابة 4 أشقاء في حادث غصن الزيتون بالشرقية    إسعاد يونس تحتفل بعيد ميلاد عادل إمام بعرض فيلم "زهايمر" بالسينمات    بعد بكائها في "صاحبة السعادة".. طارق الشناوي: "المكان الوحيد لحكاية ياسمين والعوضي مكتب المأذون"    الصحة: علاج 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية خلال 3 أشهر    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة وادى ماجد غرب مطروح اليوم    "تجميد اتفاقية السلام مع إسرائيل".. بين العدوان المباشر والتهديد الغير مباشر    مواد البناء: أكثر من 20 ألف جنيه تراجعًا بأسعار الحديد و200 جنيه للأسمنت    البورصة المصرية تستهل بارتفاع رأس المال السوقي 20 مليار جنيه    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    شوبير يوجه الشكر لوزير الشباب والرياضة لهذا السبب| تفاصيل    "لم يسبق التعامل بها".. بيان من نادي الكرخ بشأن عقوبة صالح جمعة    تعرف على قيمة المكافآة الخاصة للاعبي الزمالك من أجل التتويج بكأس الكونفدرالية (خاص)    معاك للتمويل متناهي الصغر تخاطب «الرقابة المالية» للحصول على رخصة مزاولة النشاط    يقظة.. ودقة.. وبحث علمى    أوقاف الغربية: حظر الدعوة لجمع تبرعات مالية على منابر المساجد    الإفتاء تعلن نتيجة استطلاع هلال شهر ذي القعدة لعام 1445 هجريا الليلة    مجدي شطة يهرب من على سلالم النيابة بعد ضبطه بمخدرات    بعد إخلاء سبيله.. مجدي شطة تتصدر التريند    خلال 24 ساعة.. تحرير 463 مخالفة لغير الملتزمين بارتداء الخوذة    صفحات غش تتداول أسئلة الامتحان الإلكتروني للصف الأول الثانوي    سها جندي: نحرص على تعزيز الانتماء في نفوس أبناء الوطن بالخارج    أسرار في حياة أحمد مظهر.. «دحيح» المدرسة من الفروسية إلى عرش السينما    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    قصور الثقافة تحتفل بعيد العمال في الوادي الجديد    لبلبة و سلمي الشماع أبرز الحضور في ختام مهرجان بردية للسينما    اليوم العالمي للمتاحف، قطاع الفنون التشكيلة يعلن فتح أبواب متاحفه بالمجان    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    «القاهرة الإخبارية»: إصابة شخصين في غارة إسرائيلية غرب رفح الفلسطينية    تقرير: مشرعون أمريكيون يعدون مشروع قانون لمعاقبة مسئولي المحكمة الجنائية الدولية    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    هيئة الدواء تقدم 12 نصيحة لمرضى الربو    تتخلص من ابنها في نهر مليء بالتماسيح.. اعرف التفاصيل    "المحظورات في الحج".. دليل لحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج 2024    برج العذراء اليوم الأربعاء.. ماذا يخبئ شهر مايو لملك الأبراج الترابية 2024؟    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    للمقبلين على الزواج.. تعرف على سعر الذهب اليوم    "كفارة اليمين الغموس".. بين الكبيرة والتوبة الصادقة    عزت إبراهيم: تصفية الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة عملية مخطط لها    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    أختار أمي ولا زوجي؟.. أسامة الحديدي: المقارنات تفسد العلاقات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوار "الاعترافات" ضياء الدين يروى تفاصيل حياته الخاصة وذكرياته السياسية
نشر في بوابة الأهرام يوم 06 - 04 - 2011

شاء القدر أن يعيش ضياء الدين داود ليرى –وهو على سرير المرض- ثورة 25 يناير، ويشهد نهاية نظام قضى سنوات في معارضته دون أمل في أن تتغير الظروف إلى الأفضل، ورحل الرجل اليوم الأربعاء عن 85 عاما قضى معظمها في أضواء السلطة، كما لم يسلم من دخول قفص الاتهام.
في عام 2004 كان لقائي معه بمنزله في مدينة الروضة بدمياط، وفي حوار مطول – تم نشره حينها في مجلة "نصف الدنيا" في عدد خاص بعنوان "الاعترافات"- تحدث داود عن أدق تفاصيل حياته الخاصة، وتاريخه السياسي، وكانت صياغة الحوار في هذا الشكل، ليكون أقرب إلى المذكرات.
وفيما يلي ما قاله داود عن ذكرياته الخاصة، ومذكراته السياسية، وقصة خلافه مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات:
أعترف أنا ضياء الدين محمد داود أمين عام الحزب العربي الديمقراطي الناصري أن طفولتي لا تختلف كثيراً عن طفولة كل الذين نشأوا في الريف، ولدت في 27 من مارس 1926م بقرية الروضة، التي أصبحت مدينة وأعيش فيها حتى الآن، كانت تابعة لمحافظة الدقهلية قبل إنشاء محافظة دمياط في الخمسينات، كان ترتيبي الأول بين سبعة اخوة ثلاثة رجال وأربع بنات، رغم أن أسرتنا كانت متوسطة الحال، إلا أنهم كانوا حريصين على تعليم أبنائهم.
كان والدي ضابط شرطة استقال مبكراً قبل زواجه وتفرغ لزراعة الأرض التي ورثها عن جدي، وكانت أمي من أصول ريفية لكنها ولدت في القاهرة وتعلمت حتى حصلت على الشهادة الإبتدائية القديمة فعرفت أهمية التعليم، ويرجع الفضل في تعليم أخواتي البنات إليها، لأنه في ذلك الوقت كان تعليم البنات أمراً مستهجناً، خصوصا في الريف، لكنها كانت مثقفة وكانت تذاكر معنا وتعلمنا اللغة الإنجليزية والعزف على البيانو، الذي أحضرته معها ضمن عفش الزواج وكان ذلك غريبا على القرية.
حينما ولدت كان الريف يختلف بنسبة 100% عن ما هو عليه الآن، فلم تكن هناك مياه نظيفة للشرب ولا كهرباء ولا طرق ولا مدارس، حيث كانت المدرسة الابتدائية الوحيدة في عاصمة المركز ولا توجد بالقرى غير المدارس الإلزامية المجانية، التي تؤهل التلميذ لدخول المدرسة الإبتدائية، التي كانت تعقد مسابقة للمتقدمين للالتحاق بها، ولم يكن من الضروري قضاء السنوات الأربع في تلك المدرسة الإلزامية، حيث كان يمكن التقدم لامتحان القبول بالمدرسة الإبتدائية بعد سنة واحدة، وفعلاً بعد السنة الثانية إلزامي -كان عمري وقتها ثماني سنوات- دخلت امتحان القبول ونجحت في دخول المدرسة الإبتدائية، التي كانت على بُعْد خمسة كيلومترات من قرية الروضة.
كانت رحلة عذاب يومية، خصوصا أنه لم يكن يتعلم من قريتي غيري وتلميذ آخر يكبرني بعام، وكنا نذهب ونعود يومياً في مشوار شاق على ظهر الركوبة "الحمار"، الذي كنا نتركه في وكالة الحمير حتى نهاية اليوم الدراسي مقابل قرش تعريفة "خمس مليمات"، وبعد أربع سنوات دخلت امتحان الإبتدائية في المنصورة.
وبعد النجاح التحقت بمدرسة دمياط الثانوية، وكانت المدرسة الوحيدة في المنطقة، على بُعْد خمسة عشر كيلومترا من الروضة، ودخلت مضطراً شعبة العلوم، لأنه لم تكن بها شعبة للآداب، وكان هناك أتوبيس نذهب به يومياً إلى المدرسة وكانت مواعيده متباعدة ولا يسير في أيام المطر، حيث لم تكن الطرق مرصوفة، مما جعلني آخذ شقة في دمياط وأسكن بها في السنة النهائية "رابعة ثانوي"، حينما حصلت على الشهادة الثانوية دخلت كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، لأن حقوق القاهرة لم تكن تقبل غير طلاب الشعبة الأدبية، وبعد السنة الأولى قمت بتحويل أوراقي إلى جامعة القاهرة، وتخرجت فيها سنة 1949م.
الحياة الريفية كانت حياة بسيطة جداً، ليس بها أي نوع من اللهو، فكنت أشارك وقت فراغي من الدراسة والإجازة الصيفية في العمل بالحقل، بعد الغروب لم يكن مسموحاً الخروج من البيت، فقد كنت أكبر اخوتي ومورست معي كل ممارسات التربية الأبوية أكثر من اخوتي، لدرجة أنه كان في الشارع الذي نسكن فيه خياط بلدي أديب وظريف جدا،ً فكنا نحن طلبة البلد نتجمع ونجلس عنده، فكان والدي حينما يمر على دكان الخياط في طريقه للمسجد يستنكر هذه الجلسة ويقول لي "أحسن لك امسك كتاب اقرأ فيه".
تلك الحياة البسيطة التي تخلو من صنوف اللهو كان لهذا أثرا كبيرا في تكوين شخصيتي، حيث كانت المسلاة الوحيدة هي القراءة، وقد أسعدني الحظ أنه كان في بيتنا مكتبة قديمة موروثة من جدي، رغم أن الكتب كانت في معظمها دينية، إلا أن تلك المكتبة كانت بها كذلك العديد من المجلات، التي كانت تصدر في ذلك الحين مثل الرسالة والثقافة والمقتطف والهلال، إضافة إلى الكتب التراثية، وكنا نقرأ في بعض الأحيان أنا وأسرتي قراءة جماعية، حيث أقرأ وهم يستمعون، مما كون لدى ثروة لغوية لا بأس بها، زاد من ثرائها قراءة القرآن مع والدي.
كان لي ابن عم يهوى قراءة المجلات، وكان حريصاً على شراء روز اليوسف ويحتفظ بكل الأعداد، فكنت أنا قارئا لروز اليوسف على حسابه، وكانت في ذلك الوقت تقوم بدور كبير كمجلة سياسية تثير القضايا، وبفضل قراءتها وقراءة غيرها من الجرائد مثل المقتطف والأهرام والمقطم أصبح لديَّ مع بداية دراستي الجامعية بالإسكندرية خلفية سياسية ليس لها اختيار محدد، إنما كانت نوع من الإلمام بما يحدث.
في ذلك الحين كانت هناك ثلاث هيئات نشطة هي الوفد ومصر الفتاة والحزب الوطني فاستهواني الحزب الوطني، فدخلت شباب الحزب الوطني في سنة 1946م وبدأنا نصدر مجلة أسبوعية أسميناها اللواء الجديد وكنت أكتب فيها، تلك السنة كانت من السنوات النشطة سياسيا في كل مصر، لأنه حدثت فيها مباحثات صدقي بيفن، التي كانت قد توصلت إلى شبه اتفاق رفضته كل الأحزاب، وخرجت المظاهرات وقمنا نحن في الجامعة بمظاهرات كبيرة، وكتبت مقالاً نشرته الأهرام لي كرد على مقال للكاتب عبدالقادر المازني كان تحت عنوان "أشعة في الظلام" يؤيد فيه اتفاق صدقي بيفن ويدافع عنه، وكان ردي عليه تحت عنوان "أشعة في ظلام الأشعة".
بعد المظاهرات تم تعطيل الكلية خمسة أشهر، وقبضوا علينا ورحلونا لبلادنا فقلق أبي وأصر أن أنتقل إلى القاهرة بين أعمامي وأبناءهم، في القاهرة قل نشاطي لأنه في الإسكندرية كان التجمع الطلابي أسهل، رغم ذلك استمر ارتباطي بالحزب الوطني، لكنه في ذلك الحين كان الصراع شديدا بين الوفد والإخوان المسلمين، وكانت بقية الأحزاب على الهامش إضافة إلى ظهور نوع من الإقليمية في القاهرة فقامت شبه رابطة لأبناء كل محافظة ذابت فيها الحزبية، وكان التعصب الإقليمي أقوى من التعصب الحزبي.
كان حلمي وتخطيطي لحياتي أن أكون محامياً في المنصورة أو الإسكندرية، وكانت بداية هذا الحلم حينما كنت في رابعة ثانوي، حينما ذهبت إلى محكمة المنصورة مع صديق لي حيث كان يستأنف حكماً بالغرامة صدر ضده نتيجة اتهام جيرانه له بأنه ضربهم، وكان يترافع عن نفسه فأعجب به الناس، لأنه في هذه السن الصغيرة ويستطيع الحديث ببراعة، لكن القضاة أيدوا الحكم عليه، المهم أبهرني منظر المحكمة ومرافعة المحامين فقررت أن أكون محامياً.
بعد تخرجي في حقوق القاهرة سنة 1949م، في 15 من أكتوبر من نفس العام تم إنهاء الامتيازات الأجنبية وإلغاء المحاكم المختلطة، فكان طموحي أن آخذ مكتباً من مكاتب المحامين الأجانب الذين سيرحلون، وبدأت محامياً في المنصورة لمدة ثلاث سنوات، وكنت أتمنى أن أظل بها، إلا أن طموحاتي تخاذلت تحت وطأة ظروف العائلة، حيث حدثت خلافات بين عائلتنا وعائلة أخرى على تولي منصب العمدة، وكانوا كل يوم في مشاجرات ووصل الخلاف إلى المحاكم وأقسام الشرطة فكان من الطبيعي أن أكون في القرية على مقربة من أهلي، وكان ذلك رغماً عني، حتى أنني انطويت على نفسي في تلك الفترة، لكني فتحت مكتبي في مركز فارسكور.
فترة التدريب في المنصورة كنت آخذ أتعابي عبارة عن مصاريف انتقال فقط، وحينما فتحت مكتبي في فارسكور تخيلت أنه يمكن عمل ثروة من المحاماة، لكنه كان عندي وكيل رحمه الله وأنا من طبيعتي لا أجلس مع الموكل وأتقاضى منه الأتعاب بشكل مباشر وكنت أترك هذا العمل للوكيل، فكان كل شهر يقدم لي الحساب وأطلع خسران، رغم أنه كانت عندي قضايا كثير وكنت متحملاً لذلك، إلى أن وجدته قد بعث خطاباً لوالدي يقول له فيه "كل عام وأنت طيب القمح طلع وأنا عاوز إردبين" فقلت له هل سينفق أبي علىَّ وعليك فلم يعجبه الكلام، وذات مرة كنا نراجع الحساب واختلفنا فأرسلت إلى ابن عمي الذي كان قد جاء لي بهذا الوكيل وأثناء مناقشته معه زاد في الكلام فضربه ابن عمي فاستقال وبدأت أعتمد على نفسي في كل شيء.
مر بيتنا بظروف صعبة جداً حتى نتعلم أنا واخوتي، حيث كانت مصاريف التعليم كبيرة فمثلا وأنا تلميذ في الإبتدائي كانت مصروفات المدرسة سبعة جنيهات، أي ما يعادل الإيجار السنوي لفدان أرض زراعية، وحينما وصلت إلى المرحلة الثانوية ارتفعت المصاريف إلى 21 جنيها.
بلدنا كان يملك زمامها واحد من الأسرة المالكة اسمه الأمير محمد عبدالحليم حليم، وكان يعيش في تركيا معظم الوقت، وكان معظم أهل القرية إما يعملون في تفتيش الأمير أو يستأجرون منه الأرض، وكان والدي يستأجر قطعة أرض من تفتيش الأمير، وكانت تلك الأرض تغل لنا أفضل من الأرض التي نملكها، كما أنها شجعت أبي على أن يبيع فدان من المِلْك كلما وقع في أزمة.
حينما قامت الثورة في 23 من يوليو سنة 1952 وصدر قانون الإصلاح الزراعي أخذ أرض الأمير وتم توزيعها على الفلاحين، فاهتز بيتنا مادياً بشدة، لكن ذلك لم يؤثر على انحيازي للثورة، لأن الظروف الصعبة التي كان الناس يعيشونها قبل الثورة كانت كفيلة بأن أؤيدها، رغم ما لحق بي من ضرر على المستوى الشخصي.
بعد عودتي ل"الروضة" وفتح مكتب فارسكور لم يكن هناك مجال للسياسة، لكن بحكم إقامتي في الريف فرض الواقع نفسه من خلال علاقات اجتماعية ومجاملات، وظل الحال كذلك مما وأوجد لي رباطاً اجتماعيا مع الناس ووثق علاقات كثيرة وشجعني على دخول الاتحاد الاشتراكي بأغلبية، لأنه كان يتم انتخابنا من جانب لجان الاتحاد، ثم تدرجت في تلك اللجان حتى أصبحت عضواً في مجلس مديرية دمياط، ثم مجلس محافظة دمياط حتى جاء عام 1964 فرشحت نفسي لعضوية مجلس الأمة، ونجحت وعينت بعدها أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي في محافظة دمياط، وداخل المجلس كنت مقرر اللجنة الخماسية التي تم تشكيلها للنظر في قوانين الحريات.
كانت عضوية مجلس الأمة هي النافذة التي أطللت منها على السلطة في مراكزها العليا، وتعرفوا هم علىَّ من خلالها، حيث كانت في الرئاسة قناة مفتوحة على المجلس يستطيع الرئيس من خلالها الاستماع إلى ما يدور في الجلسات، فسمعني الرئيس عبدالناصر ولفت نظره فطلبوني في الرئاسة وأخبروني أن هناك موعدا مع الرئيس في الساعة الثانية عشر ظهر اليوم التالي.
كان وقتها هناك حديث حول تعديل وزاري عقب حرب 1967، ولم أكن أفكر في هذا الأمر، بدليل أنني لم أحاول أن يكون لي مقر ثابت في القاهرة، وكنت أقيم فترة جلسات مجلس الأمة وزياراتي لها في فندق "جراند أوتيل"، فذهبت إلى مكتب الرئيس فوجدت الدكتور صفي الدين أبو العز في انتظار المقابلة أيضا، ودخلت أنا على الرئيس عبدالناصر وكان له شخصية آسرة، ويشعرك أنه يعرف كل شيء عن حياتك وأنه صديق لك.
بدأ عبد الناصر يتحدث عن الموقف وعن الوزارة الجديدة وما يتطلع إلى تحقيقه، وكلفني بوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة الدولة لشئون مجلس الأمة، وكانت المرة الوحيدة التي يتم الجمع فيها بين هاتين الوزارتين، وقاموا بتركيب تليفون خاص بي في حجرتي بالفندق، حتى يسهل الاتصال بي، وكان من السهل للجمهور العثور علىَّ من خلال انتظاري في الفندق وأمامه، وعندما انتخبت لعضوية اللجنة التنفيذية العليا تركت الوزارة، لأنه كان هناك قرار من الاتحاد الاشتراكي بعدم الجمع بين الوزارة واللجنة التنفيذية العليا.
بعد وفاة جمال عبد الناصر في 28 من سبتمبر 1970م أيدت اختيار السادات لخلافته، لأنه كان يسيطر علينا جميعا هاجس أننا داخلون إلى معركة، وأن الرئيس عبدالناصر قد أتم كل الإجراءات السابقة على اتخاذ قرار الحرب، وكان الهمس يدور على أنه خلال شهور سيحدث ذلك، ومن هنا كان المطلوب أن يتم انتقال السلطة بكل يسر وسهولة، دون مشكلات حتى نهيئ الجو للاستمرار في طريق المعركة.
الأمر الثاني الذي جعلنا نختار السادات، أنه كان هناك نوع من المشاعر العاطفية أن آخر اختيارات الرئيس لمن يوليه منصب نائب رئيس الجمهورية هو أنور السادات، فكان اختيارنا نوع من احترام إرادة الرئيس الراحل، والأمر الثالث أن البدائل كان عليها خلاف.
كانت الإشكالية الكبرى في اختيار السادات أنه لم يتم اختباره كأداة من أدوات السلطة التنفيذية في أي وقت من الأوقات، لأنه لم يتولى خلال مدة الثورة أي عمل تنفيذي، على عكس كل رجال الثورة الآخرين، لكن كان لدينا تصور أنه بعد توليه رئاسة مجلس الأمة، الذي كان يعتبر الحد الأدنى من الديمقراطية المتاح في تلك الفترة، فتخيلنا أنه سيكون أكثر مرونة في التعامل مع الناس ومع الديمقراطية، ورأينا أن السلطات التي كان يجمعها جمال عبدالناصر بوصفه زعيم الثورة وقائدها يجب أن يتم تقسيمها على مؤسسات مختلفة.
بمعنى أن يكون هناك رئيس وزراء، ورئيس جمهورية، ولجنة تنفيذية عليا، وفعلاً ظل السادات ملتزما بهذا الكلام ويردده في كل شعاراته وخطبه حتى شهر ديسمبر، حيث كانت تنتهي مدة اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وكنا قد اتفقنا على عدم مد الاتفاق، وأن تقوم وفود من مصر تقابل كل زعماء العالم لإخطارهم بأننا أعطينا الفرصة للسلام، وأن إسرائيل تقف كما هي، وكنت أنا ضمن تلك الوفود، وحينما عدنا وجدنا الأمور متغيرة، ووجدنا فكرة الحرب غير واردة تماما، ووجدنا أن هناك رسالة وجهها أنور السادات لديان من خلال المبعوث الأمريكي سيسكو.
كانت تلك بداية الصدام، الذي بدأ خفيا،ً ثم بدأ السادات يتصرف ولا يستشير اللجنة التنفيذية العليا، ولا يدعوها للاجتماع، وزاد تدهور العلاقات إلى أن واجهنا بأنه يجري اتصالات للوحدة مع سوريا مرة أخرى، وكان رأينا أن نؤجل ذلك لما بعد الحرب، حتى لا نفتح على أنفسنا جبهات أخرى، لأن الوحدة ستكون محل انتقاد وهجوم.
وزاد الخلاف وبدأ ينفرد بجميع القرارات، وكان يشجعه على هذا الاتجاه قوى مختلفة داخل السلطة، لأنهم كانوا على خلاف مع بعض أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومنهم هيكل، واعتقادي الشخصي أن السادات استطاع أن يوظف هذه الخلافات ويعمقها من أجل أن يستجمع السلطة في يده، ثم لفظ الجميع ولعبها ببراعة.
فيما أعلم كان السادات يرتب لعملية الخلاص منا قبل أحداث مايو 1971 بكثير، ومن الأسرار التي أذيعها لأول مرة أن سفير المجر في مصر وقتها كان صديقي جداً واتصل بي تليفونيا في شهر فبراير، وقال لي أريدك في موضوع سري وهام وأدعوك على العشاء، فذهبت إليه في السفارة فوجدته قد جهز جلسة لنا في وسط السطوح، وقال لي لقد وضعتها هنا حتى لا يكون متاحاً لأي جهاز تسجيل أن يسجل لنا، وقال إن الشخصية الأولى في هذه العملية مندوب المخابرات الأمريكية، وهو سفير تركيا في ذلك الحين واسمه عبدالسميح جنفار، وأن هذا الرجل له علاقات وثيقة بمحمود فوزي وبهيكل.
وقال سفير المجر إنه علم من زوجته وكانت صديقة لزوجة سفير تركيا أن أنور السادات سيجري تغييرات كبيرة، وأن هذه التغييرات ستشملك، وحينما عدت أخبرت أعضاء اللجنة فلم يصدقوا ذلك، وكلمة "فوزي جاهز" التي ظهرت في جميع التسجيلات والتحقيقات هي أنه كلما كان يحدث أحدنا الآخر عن هذه المخاوف يرد عليه بأن فوزي جاهز، بمعنى أننا في سبيلنا للحرب مع إسرائيل، وأن الجيش الذي يقوده فوزي قد اكتملت استعداداته ولا ينقص غير تحديد موعد الهجوم.
وكانوا جميعا غير مقتنعين بأن السادات سيتخذ أي موقف تجاهنا في فترة كتلك، إلا أنا والدكتور لبيب شقير، كنا الوحيدان المتأكدان أنه لن يحارب ونحن معه واتفقنا أن نستقيل، والأكثر من معلومات السفير المجري أن مدير المباحث العامة في ذلك الوقت وهو ابن عمي قدم تقريراً إلى شعراوي جمعة أخبره فيه أن أنور السادات يرتب لاعتقالكم، فقال له شعراوي "يا حسن أنت مجنون إحنا هنحارب ولا هنحارب بعض".
وفي يوم الاعتقال -كان يوم الخميس- كنت مرهقا ونائما في البيت، ولم أسافر للبلد كعادتي، فطلبني الدكتور لبيب شقير وقال هناك أحداث خطيرة تعال لي، فذهبت إليه فأخبرني أن السادات أقال شعراوي جمعة وجاء بممدوح سالم رئيساً للوزراء، وهم مجتمعون في بيت شعراوي ليتفقوا على تقديم استقالة جماعية، فذهبنا إلى عبدالمحسن أبوالنور، فقال إن هناك إجراءات ستتخذ، وغالبا سيتم القبض عليكم الليلة، وكنت أنا أسكن بمفردي فأخذت متعلقاتي الشخصية وذهبت إلى أختي، حتى يعرفوا طريقي حينما أذهب مع من سيعتقلني، وفعلا قبضوا علىَّ هناك وأعادوني إلى بيتي وحددوا إقامتي، وبعد ثلاثة أيام أخذوني لسجن أبو زعبل.
تكونت هيئة المحكمة من حافظ بدوي رئيساً ومن حسن التهامي وبدوي حمودة، وكان رئيس المحكمة الدستورية في ذلك الوقت، وحسب ما قال حافظ بدوي لي بعد ذلك أنه قبل أن يشترك في المحكمة على أنها عملية سياسية بسيطة، وأنه لن تكون هناك أحكام وأنهم سيفرجون عنا، لكنهم قاموا بتقديمنا للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى -والآن يغضبون لأننا اتهمنا السادات بالخيانة- وكان مقررا أن تصدر أحكاما بالإعدام ضدنا، وقد استدعى السادات المحكمة وأملى عليهم هذا الحكم، إلا أن المحكمة العسكرية التي كانت تحاكم الفريق فوزي قالت لا يمكن أن نعدم الرجل الذي أعاد بناء الجيش المصري وتم الحكم علينا بالسجن عشر سنوات، وخرجت وشعراوي جمعة سنة 1978، بينما خرج الباقون سنة 1981.
فيما يتعلق بحياتي الخاصة، فمنذ الهزة المادية التي أحدثتها الثورة لنا استبعدت فكرة الزواج إلى حين، حتى أساعد الأسرة بما يمكن أن أكسبه من المحاماة.. لم أكن مرتبطاً بأي علاقات عاطفية، ولم تحدث على طول حياتي السابقة، حيث كنت أعيش في الريف وكانت تربيتي تربية دينية محافظة، وفي السنة التي قضيتها في دمياط لم يكن هناك وقت لمثل هذه الأشياء، علاوة على أنني كنت أذهب للقرية كل خميس وجمعة، حتى أحضر الزوادة "الخبز والجبن والبيض"، علاوة على أن والدي كان يزورني هو وأعمامي كل يوم تقريباً، فلم تكن هناك أية فرصة لعمل علاقات غرامية، علاوة على أن دمياط مجتمع محافظ جداً فلا يجرؤ أحد على أن يسير مع فتاة في الشارع، حتى أن أختي كانت في مدرسة البنات الثانوية فكنا لا نمشي معاً إلى محطة الأتوبيس حتى نعود للبيت، وكنت أمشي بعيداً عنها حتى نصل، خوفاً من أن يزفنا الأطفال.
وحينما تحسنت ظروفي المادية كنت قد تجاوزت سن الأربعين، وأنا شخصياً مؤمن بأن الزواج بعد سن الأربعين نوع من المغامرة، لأنه من الصعب على ما أظن تكوين أسرة وتربية أبناء بعد هذه السن، وكنت أنا العازب الوحيد في وزارة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان يداعبني بأنني لو لم أتزوج سيزوجني من باندرليك، وكانت رئيسة وزراء إحدى دول جنوب شرق آسيا.
بكيت كثيراً لكن أكثر المرات التي بكيت كانت عند وفاة والدي ووالدتي، ورغم أنني غير نادم على الاشتغال بالسياسة، إلا أنني نادم على قبولي تولي المناصب القيادية في السياسة، خصوصا التنفيذية، وكنت أتمنى أن أظل في المحاماة التي اخترتها من أجل أن أكون حراً غير مرءوس، ولم أفكر يوماً في اتخاذ مهنة أخرى لي.
لم يوجه إلىَّ أي نقد أثناء فترة الوزارة واللجنة التنفيذية، وأسوأ نقد تم توجيهه لي كان فيما يتعلق بالعمل الحزبي، لأنه لا شك أن العمل الحزبي فيه قصور شديد جداً، وجزء منه أنا مسئول عنه بنسبة 100%، إنما يجوز أن المناخ العام أوجد هذا القصور ودرجة المقاومة التي قاومنا بها كانت أقل بكثير مما يجب.
أحتفظ ببعض الأوراق القديمة الخاصة باتصالات خارجية في فترة وجودنا مع أنور السادات، وتوصلت إليها بحكم منصبي في اللجنة التنفيذية العليا، وأحتفظ بها لأنها مرتبطة بشخصيات عامة في الداخل والخارج، ومن خلالها لا أعتقد أنني أخطأت في حق السادات، بل على العكس أنا ألوم نفسي إلى الآن لأنني لم أشترك حقيقة في مؤامرة ضد أنور السادات، وكان هذا ما يمكن أن أفخر به في حياتي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.