كتب سهيل إدريس، مؤسس دار الآداب اللبنانية، في مذكراته، أنه زار طه حسين في القاهرة، في عام 1967، وكان لتوه عائدًا من زيارة لنجيب محفوظ بعد أن أقنعه بتوقيع عقد لنشر روايته المثيرة للجدل وقتها "أولاد حارتنا"، وكان برفقته في الزيارة فتحي نوفل، وكيل الدار في القاهرة.. وسارع وكيل الدار اللبنانية ببسط ظرف أمام الأستاذ نجيب فيه خمسة آلاف جنيه، بمثابة حقوق تأليف على الطبعة الأولى من الرواية، فتساءل الدكتور طه حسين: خمسة آلاف جنيه دفعةً واحدةً؟ وحين أكّد له إدريس ذلك، قال طه حسين: يا بَخْته! تحمل تلك الحادثة، دلالتين مهمتين في مسألة النشر خارج الوطن، بخاصة في بيروت، الأولى هي الهروب من سطوة الرقيب إلى فضاء أكثر رحابة وحرية لا يمارس المنع، وهو الذي جذب كتابا وشعراء شبابا كثيرين وقتها للنشر هناك كيحيى الطاهر عبدالله وبهاء طاهر وإدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وأمل دنقل وغيرهم، وأخرى تتضح من الرد الطريف والعفوي لعميد الأدب العربي، وهي قدرات الناشر المغايرة تمامًا لما كان موجودا في مصر وبعض الدول العربية الأخرى. كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، حينما كان الحكم في مصر شموليًا، وكانت الدولة لا تملك غير دار نشر رسمية واحد وبعض الدور الخاصة الصغيرة، أما الآن وبعد أن صار الفضاء أوسع من أن تضمه أطراف الرقيب وبعد أن صار عدد الدور أكثر من عدد المبدعين أنفسهم، لا يزال بعض الكتاب الشباب - من المتحققين وغير المتحققين بعد - يسافر بأدبه خارج الوطن لينشره، فأي الموقفين السبب في ذلك، موقف نجيب محفوظ أم طه حسين؟ ترى الروائية منصور عز الدين، أن عامل الرقابة لم يعد في الحسبان على الإطلاق في حالة المفاضلة بين النشر في القاهرة أو بيروت، بل إن ثمة دور نشر مصرية بالغة الجرأة حاليًا، وبعضها سقفه في النشر أعلى من كثير من دور النشر اللبنانية، بحسب قولها. وتضيف أن دور النشر المصرية الطليعية (دار ميريت على سبيل المثال) تمتاز أيضًا بجرأة أكبر على تبني أعمال تجريبية وطليعية متمردة على القواعد المألوفة في النشر عربيًا. لكن المشكلة من وجهة نظر صاحبة "وراء الفردوس"، أن توزيع معظم دور النشر المصرية يكاد يقتصر على مصر وحدها بل وأحيانًا القاهرة والإسكندرية فقط، في حين أن نشر كتاب ما في دار نشر بيروتية معروفة يضمن أنه سيكون متاحًا في عواصم عربية عديدة، وبالتالي قد يفضل بعض الكتاب النشر في بيروت رغبة منهم في وصول أعمالهم إلى قطاعات مغايرة من القراء. صدرت لمنصورة عز الدين مؤخرًا، رواية "جبل الزمرد" (حائزة على جائزة أفضل رواية في معرض الشارقة 2014)، عن دار "التنوير" اللبنانية والتي تتميز بوجود فرع دائم لها بالقاهرة، لكنها ليست التجربة الأولى للروائية، التي أتيح النشر أمامها من قبل مع روايتها الأولى "متاهة مريم"، حيث تقول: عرض علي نشر الرواية في دار نشر لبنانية كبيرة، لكنني لم أتحمس لهذا في حينه، لأنه وفقًا للعرض الذي تلقيته لم يكن ممكنًا نشرها في القاهرة بالتوازي مع نشرها في بيروت، وانطلاقًا من رؤيتي وقتها أن قرائي المفترضين في مصر بالأساس، فضلت نشرها في دار ميريت، ثم حدث بعد سنوات أن أعيد نشرها في المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وتستكمل: لم أفكر بعد "متاهة مريم" في أن أنشر خارج القاهرة بشكل حصري، فالأفضل أن يكون هناك طبعة عربية موازية للطبعة المصرية إن كان هذا متاحًا، ثم مع "جبل الزمرد" رأيت أن دار التنوير تقدم حلًا مثاليًا، حيث إن لها فروعًا في القاهرةوبيروت وتونس في الوقت نفسه. على العكس من منصورة، لاينشغل الروائي وجدي الكومي، الذي نشرت روايته الأخيرة "خنادق العذراوات" في دار الساقي ببيروت، أن تصدر روايته حصريًا في مصر فقط، ولكنه يتفق معها في مسألة التوزيع، حيث انطلقت رغبته في النشر خارج الوطن، أن يكون هناك ناشر عربى يذهب بكتابه إلى آفاق جديدة لم يبلغها الناشرون المصريون، ليس لأنهم عاجزون عن ذلك، لكن لأن آليات التوزيع فى مصر لم تتطور بعد بنفس القدر الذى واكب التطور فى سوق الكتاب اللبنانى، حيث إن لدار الساقى نافذة واتصالا جيدا بوكلاء الأدب العالميين، ولديهم فرع فى العاصمة البريطانية لندن، ولذلك "رغبت فى أن يصل كتابى لنافذة جديدة لم تصلها كتبى من قبل"، بحسب قوله. كما لا يؤمن صاحب "الموت يشربها سادة"، بحتمية أن ينشر المبدع كتبه عند ناشر واحد، لتتوفر أعماله كلها فى نفس الأرفف بالمكتبات، وهو ما جعله يتجه بعد روايته الثانية، إلى تنويع تجربة النشر، واختار أن ينشر روايته الثالثة في دار نشر لبنانية، ثم جاء كتابه الرابع فى دار الشروق المصرية، وصدر فى نفس العام -2013- مع روايته الثالثة التى صدرت فى دار الساقى ببيروت. ويبدو أن الكتاب الشباب في مصر غاضبون بشدة من آليات النشر التي يتضح أن كثيرا من دور النشر المصرية غير بارعين فيها، ويظهر ذلك لدى أحمد عبد المنعم رمضان، الذي يؤكد أن الأزمة لم تعد أزمة رقابة وحريات كما كانت من قبل، معتقدًا أن أغلب الكتاب يفضلون النشر فى مصر لو توفرت لهم دار نشر تحقق مرادهم، لكن يبدو أن هذا الأمر بات صعبا جدا. ويقول صاحب "في مواجهة شون كونري"، إنه بالرغم من تعدد دور النشر وزيادة أعدادها بشكل كبير بالسنين الأخيرة، فإنه باستثناء دار الشروق التى لا تتعامل إلا مع كتاب معينيين بعقلية تجارية بحته، لا توجد أى دار نشر مصرية – وأنا أقصد هنا هذا التعميم – تحقق طموح الكاتب ورضاه عن عملية النشر. ويوضح: تختلف العقبات باختلاف الدور؛ ما بين عقبات مادية، أو أخرى خاصة بطول الوقت أو التدخل فى النص أو عملية توزيع الكتب والدعاية لها، فكل تلك الدور – وأقصد بكلها أنها كلها – تعتمد فى عملها على مجهودات فردية ومبادرات شخصية، ولا يعمل أى منها بشكل مؤسسى محترف يسمح بإتمام العمل بشكل مرض. وبالرغم من ذلك يتوجس صاحب "رائحة مولانا" من خطوة النشر فى الدول العربية، حيث يرى أنها ليست مريحة تماما للكاتب الذى يعرف ما سيواجهه كتابه من صعوبة بالتوزيع فى مصر، كما أن سعره سيكون أغلى من نظيره المصرى وهو ما سيزعج الكاتب ويدفعه للتفكير عشرات المرات قبل الإقبال على تلك الخطوة، لذلك فهو يعتبر أن انتشار النشر العربى للكتاب المصريين هو بمثابة دلالة على مدى الإحباط من أداء الدور المصرية بشكل عام. ويتفق الروائي الأردني فادي زغموت، الذي صدرت روايته الثانية "جنة على الأرض" حديثًا من دار الآداب ببيروت، مع ذلك التوجس، حيث لا يستطيع الجزم حاليًا بجدوى النشر في لبنان، بعد روايته الأولى التي نشرها في الأردن، حيث يمكث على مراقبة التجربة التي لازالت في أولها، ولكنها يبني آمالا عريضة على قدرات دار النشر اللبنانية الكبيرة، قائلا: لم ألجأ لدار الآداب بسبب الرقابة في الأردن، بل بسبب قوة دار النشر وقدرتها التوزيعية، ربما تكون قوة توزيع ومكانة دور النشر اللبنانية اليوم ما يدفع بالكتاب العرب للجوء إليها، فروايتي الأولى لم توزع جيدًا في الأردن رغم أنها نشرت مع ناشر أردني كبير، لكنني الآن لا أستطيع عقد مقارنة بين التجربتين حيث لاتزال تجربتي في لبنان ببدايتها. الروائية أسماء الشيخ، لها تجربة مختلفة عن سابقيها، فلم تذهب بكتابها إلى لبنان لتنشرها، وإنما نشرت روايتها "مقهى سليني" في دار الآداب 2013، بعد أن اجتازت دورة محترف "نجوى" بركات لكتابة الرواية وحلت في المرتبة الأولى، ولكنها تؤيد رأي زملائها حول ضعف سوق النشر في مصر، وتقول: اتسم سوق النشر في مصر بالهشاشة في السنوات الأخيرة، وفقد الكثير من جديته، وذلك لانتشار الكثير من الدور التي تطبع وتوزع طالما امتلك المؤلف الثمن الكافي دون وضع الاعتبارات الأدبية كأولوية تفرز وتختار. وبالرغم من ذلك فهي لا تنفي أن الرقابة قد تكون دافعًا للنشر خارج الوطن، مستدلة في ذلك بالحوادث الأخيرة حول منع بعض الكتب في مصر رغم قيام ثورة ضد الديكتاتورية، فوجود تلك الدلائل –بحسب رأيها- لتزايد قبضة الرقيب بقسوة مؤخرا، يزيد من إرباك اللحظة الراهنة، ويجعل الأحكام القاطعة غير منصفة.