لعقود طويلة هيمن التاريخ السياسي علي الدراسات التاريخية بمصر، ولازال، ولكن محاولات أخيرة عدة من بينها "كتاب التاريخ والموسيقي"، تحاول كسر هذه الهيمنة والاحتكار عبر تقديم أنواع أخري من التاريخ المختبئ خلف طبقات من تاريخ الحروب، وانهيار وقيام الدول والأنظمة السياسية التي قد لا تعكس بالضرورة صورة المجتمعات التي تعيش تحت ظل هذه الأنظمة. يعد كتاب التاريخ والموسيقي، الصادر مؤخرًا من دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالتعاون مع المؤسسة الثقافية السويسرية ب"روهلفتسيا"، وبتحرير دكتور محمد عفيفي، رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة والدكتورة نهلة مطر أستاذ مساعد قسم النظريات والتأليف بجامعة حلوان. إضافة جديدة لرصيد التاريخ الاجتماعي للموسيقي أحد فروع تيار واسع بات يعرف بالتاريخ الاجتماعي، وهو فرع آخذ في التزايد والاتساع منذ ستينيات القرن الماضي ويهتم بتحليل بُنَىَ المجتمعات عبر تاريخ نماذج من الحياة العادية للناس، بدلاً من كتابة التاريخ من وجهة نظر الملوك والأمراء والحكومات والوثائق الرسمية التي لا تتحدث سوي باسم السلطة وعنها، ولا يزال التاريخ السياسي هو المهيمن علي حقل الدراسات التاريخية بالجامعات المصرية رغم تقلص مساحته بأغلب المدارس التاريخية بالعالم. يقدم الكتاب تاريخًا اجتماعيًا للموسيقي، بشكل جدلي بمعني أنه يحاول فهم تطور الموسيقي عبر التطور المجتمعي، ويحاول فهم المجتمع عبر موسيقاه التي أنتجها، فكل موسيقي بحسب مؤلفي الكتاب تتطور وتعكس بنية اجتماعية معينة، وهي من الضرورة بمكان لفهم التاريخ السياسي نفسه للدول فلا يمكن أن نكتب تاريخًا يعطي صورة متكاملة حول عصر ما، دون أن نفرد المساحات للطريقة التي كانت يستمع بها شعب ما للموسيقي، ويبحث عن وسائل الترفيه الخاصة به. وكيف تتحلق نخب المجتمعات حول موسيقي غربية يرونها رفيعة، وكيف يستمتع عامة الناس بالموسيقي الشرقية أو "البلدي"؟، ومن هنا تبرز أهمية الكتاب من حيث كونه عرضًا للسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أحاطت بتطور الموسيقي في مصر خلال العقود الماضية. يفتح التاريخ الاجتماعي للموسيقي مساحات واسعة للرؤية بعيدًا عن النظرة التقليدية للتاريخ السياسي ومن هذا المنطلق، يولي الكتاب عبر دراساته 12 المختلفة أهمية كبرى لنشأة الموسيقي العسكرية ودخول الموسيقي الأوروبية لأول مرة لمصر في القرن التاسع عشر، واصطدامها واصطدام الأوروبيين بالموسيقي الشرقية التقليدية بمصر وآثار ذلك علي الموسيقي والغناء والمسرح الغنائي المصري، ودخول النشيد الوطني كرمز جديد من رموز الوطنية والموسيقي المصاحبة له، والدور التاريخي للشيخ سيد درويش، أهمية كبري في دراسة تحولات المجتمع المصري وتحليل طبقاته وبزوغ القومية الجديدة والإحساس الجديد بالدولة القُطرية مع نشأة الدولة الحديثة. ويري الكتاب أن الموسيقي كانت جزءًا لا يتجزأ من وعي الشعب بذلك الشعور الجديد، فالموسيقي تعبير عن حلم شعبي وتجسيد لآمال واحباطات ونفسية الشعوب. وتهتم الدراسة الأولي التي قام بها دكتور محمد عفيفي، محرر الكتاب، بالعلاقة بين الشرق والغرب في الموسيقي، وهل كان لقاءً أم صداماً؟، فالغرب لطالما شكل لنا نحن المصريون والعرب بشكل عام مشكلة، وازدواجية ترسخت في جميع المجالات، يعبر عنها عفيفي في الدراسة عبر التركيز علي ثنائية "بلدي"، و"أفرنجي"، للتمييز بين الموسيقي الشرقية المصرية وتلك الغربية الموسومة ب"الرفيعة"، في تراتبية احتل فيها "البلدي" المرتبة الأدني. ويتتبع عفيفي في دراسته اللقاء بين الغربيين والموسيقي الشرقية عبر كتاب وصف مصر، الذي يبرز عفيفي اختلاف الآراء وقت بداية كتابته وصدوره حول الموسيقي الشرقية، وكيف بدا للفرنسيين أن الموسيقى المصرية شاذة وخارجة عن أي إيقاع وليست سوي "ألحانًا متكلفة تخرق الآذان وذات مزاج مسرف وهمجي تؤديها أصوات منكرة وأنفية". ويبرز عفيفي، قدر الاستعلاء الغربي علي الموسيقي المصرية، من منظور الحضارة الغربية التي تنظر إلي كل ما هو خارجها علي أنه خارج الحضارة والتاريخ. وينتقل عفيفي، بسلاسة لعرض تأثير إدخال الموسيقي الغربية عبر نمط الموسيقي العسكرية في جيش محمد علي، وكيف كان الجنود يشعرون بالاغتراب عن تلك الموسيقي البعيدة عن وجدانهم وشعورهم، ويقترح أن هذا ربما يكون أحد أسباب تأخر نشأة الوعي القومي لدي الجنود، فبينما كانوا مقاتلين أشداء كان الجانب الوجداني لديهم مهمل تمامًا. وفي دراسة عن فرقة حسب الله، الموسيقية يعرض دكتور أحمد الحناوي، تقريرًا تاريخيًا لنشأة تلك الفرقة التي أسست علي يد محمد حسب الله، معشوق الأميرات، عقب تقاعده من فرقة الموسيقي الخديوية التي أسسها الخديوي عباس، وكانت تعزف الموسيقي ذات الطابع العسكري. ويرصد الحناوي كيف تحول ثراء حسب الله، إلي فقر مدقع بسبب بذخه الشديد، وميزة التقرير أنه يقدم تحليلًا وافيًا لتقنيات الأداء التي اتبعتها الفرقة والصعوبات التي واجهوها لكي يعزفوا ألحانًا شرقية من آلات صنعت بألمانيا وانجلترا بمعايير لا تعترف بالتونات الشرقية مطلقًا. يحاول الكتاب فهم بعض الظواهر الموسيقية الرائدة والمؤثرة في تاريخنا الموسيقي عبر القرن العشرين، ومن أبز تلك الظواهر المطرب الشعبي أحمد عدوية، الذي لقي رواجاً تجاريًا هائلاً مع بداياته في أوائل السبعينيات، ولكنه لقي أيضًا معارضة من النخب الثقافية التي اعتبرت ما يقدمه ابتذالاً، وفي دراسة يقدمها الكاتب الصحفي سيد محمود من منظور النقد الثقافي يبرز مجموعة من التحولات المصاحبة لظهور عدوية وتحول الرفض الشديد له مع الوقت وخفوته مع جملة التحولات والتغيرات المجتمعية التي سادت تلك الفترة. وتضع الدراسة معتمة علي آراء نقاد وشعراء ومؤرخين موسيقيين عدوية، في سياق فني سياسي، إذ تربط ظهوره ك"صاروخ عبثي"، بنكسة 1967 كسخرية ونكتة في مناخ من اليأس والهزيمة، وتقول الدراسة: "إن عدوية مشروع مقاوم للأنساق التي وضعتها المؤسسات الرسمية، استنادًا إلي الرفض الواسع الذي قوبل به عدوية من المؤسسات الإعلامية ذات السيطرة آنذاك، فكان عدوية أول من ألقي حجرًا علي مبني ماسبيرو، وأكد حضوره في صناعة الكاسيت الجديدة، وكان بمثابة الرمز لسيادة طبقة جديدة ظهرت بعد النكسة وتجلت في عصر الانفتاح وكرس لفئة مطربي الكاسيت. وتري الدراسة أن عدوية يحق له اليوم أن يري أنه قدم فنًا حقيقيًا وليس هابطًا. وفي دراستها الهامة تحاول دكتورة نهلة مطر، تتبع التطور التاريخي للكتابة الموسيقي المصرية، منذ دخول التدوين الأوروبي الموسيقي لمصر في عهد محمد علي، مبشرًا بثلاثية المؤلف والعازف والجمهور، وكيف بدأ نسج العناصر المحلية للموسيقي المصرية دخل ما هو غربي في النوت الموسيقية خاصة بعد الاقتراب من مرحلة العبور من مرحلة ما بعد الاستعمار. وتري نهلة مطر، أن الموروث المصري في الإبداع الموسيقي المصري، يتمثل في أشكال الأداء المتوارثة الشفاهية والتي أثارت حيرة الغربيين وتقول إن التأليف الموسيقي المصري أكثر تركيبًا من الغربي، إذ يثجمع بين شكل غربي ومحتوي محلي". وتقول نهلة في دراستها :"إننا ونحن ندخل القرن الواحد والعشرين لاتزال نظرتنا للكتابة الموسيقية نظرة تقليدية تقوم علي النخبوية والاستبعاد وتدعو لمحاولة جديد لفهم رموز الكتابة الموسيقية المصرية من خلال عمل توازن بين الكيان المتفرد للمؤلف وبين الموسيقي ككيان جمعي متوارث، وذلك لكسر اغتراب المؤلف عن الجمهور. ويخصص الكتاب فصلًا كاملًا لدراسة تطور النشيد الوطني المصري، عبر المراحل الخديوية والملكية وحتي شكله الحالي، كما تخصص دراسة للشيخ سيد درويش، باعتباره لقاءً لم يكتمل برحيل بين الشرق والغرب، في شخص سيد درويش الذي يحمل لقب شيخ، ويرتدي بدلة "أفرنجي". يطرح الكتاب نظرة مغايرة علي تاريخ مصر عبر القرن الماضي، لا عبر حروب خاضتها مصر ولا عبر ثورات وأنظمة تغيرت ولكن عبر خط آخر لطالما ظل مخفيًا تحت ركام هذا الكم من التاريخ السياسي، الذي يظل ناقصًا حتي نتوفر علي فهم حقيقي لكيف كان الناس يفكرون ويستمتعون وكيف كانوا يعبرون عن آلامهم وأمالهم وإحباطاتهم عبر الموسيقي والأغاني التي صنعوها وصاحبت أحداثهم الكبرى كما يقول محرر الكتاب محمد عفيفي، الذي يري أن قراءة ثورة 25 يناير بمعزل عن ظاهرة الغناء الجماعي التي طفت معها ستظل قراءة بالضرورة ناقصة.