النجار العجوز الطيب مفيد صبري يسي (73 عاما) من محافظة قنا الذي يحتفظ بأدوات نجارة لها من العمر مئات السنين، لم يكن يدري أنه يحتفظ أيضاً في منطقة اللاوعي عنده بتاريخ أجداده الأقباط الذين اتخذوا قواعد صارمة في تعليم أحفادهم مهنتهم ليكون أشبه بحكاء التراث الذي يمزج أحاديث الفن بالتاريخ. في سلسلة نسب طويلة من أسماء أجداده يرددها بفخر حين ينطق اسمه ليجيب من يسأله: اسمى مفيد ابن صبري ابن يسي ابن هابيل ابن جرجس ابن قديس ابن عبيد ابن سليمان حتي يصل للجد سيدهم ابن مينا المصري الذي حمل ميراث النجارة. هنا لكل جد حكاية مع النجارة المصرية المعرضة للانقراض وهنا لكل جد علاقة مع صديق مسلم يتوارثها الأحفاد بمودة وحب. يقول مفيد ل"بوابة الأهرام " تعلمت في كتاب الكنيسة في عام 1937، حين كنت صغيراً وكان القس الذي يعلمنا القراءة والكتابة، يعلمنا آيات من الأنجيل والقرآن معاً بجانب حرفية الخطوط. يصمت مفيد ثم يهمس: أصدقائي من المسلمين أكثر من الأقباط وحكاياتي معهم أكثر من أن تعد أو تحصي أكلنا في طبق واحد وأعرف عنهم الكثير مثلما يعرفون عني الكثير والذين صاروا عجائز مثلي يتكبدون المشقة كى يجلسوا معي في منزلي. يرفض مفيد أن يتنازل عن أدوات نجارته التي تركها الجد العشرين مينا المصري في سلالة أحفاده ويضيف بثقة أعرف ياولدي أن المهنة معرضة للانقراض فلا يوجد نجار حالياً يقوم بصنع "كنبة " أوسرير من شجرة كما كنا نفعل ولا يوجد أحد يصنع محاريث البقر في الزراعة ولا يوجد من يصنع من خشب الزان "عضماية الفارس" وسرج الحصان مضيفاً هذا قدرنا لكن لا أستطيع أن أتنازل عن سرج الحصان الذي صنعه الجد العشرين متخذا من رسمه "مار جرجس" الشهيرة وهو يطعن الوحش من فوق حصانه نموذجاً لرسمه.. يصمت كثيراً ويتنهد، ويقول لن أتنازل. النجار القبطي مفيد لاتشغله أدوات النجارة الكبيرة الموجودة في منزله الشبيه بمتحف قديم بداية من "مدراية" القمح التي صنعها القدماء المصريين لحصاد القمح قبل دخول الجرارات الحديثة وإنما تشغله أيضاً التفاصيل الصغيرة يقدم لك مرود كحل من الخشب ثم يسألك مايستهويك فيه، لاينتظر الإجابة منك ويجيب: "المرود عتبة عيون الأحباب يابني"، مضيفاً أن التفاصيل الصغيرة في النجارة أصعب من صنع الأحجام الكبيرة فكل تفصيلة صغيرة لها هدف سواء في الحياة أو حتي في النجارة. أن تصنع من شجرة نجارة فهذا أمر سهل ولكن أن تحتفظ ب"عضماية" الفارس القديمة فهذا أمر صعب، هذا مايقوله لك مفيد والذي يسترسل بثقة في حرفية: "عضماية" الفارس التى لها أكثر من 300 عام معه مبدياً بالشرح التفصيلي الطويل اختلاف مقعد الفارس في الحصان قديماً عن العصر الحالي، فالبرغم أن جلسة الحصان هي ذات الجلسة وبرغم أن كل حصان ينتمي لجنس الحيوان، إلا أن هناك اختلافا، فالنجار القبطى الذي صنعها لصديقه الفارس المسلم، جعلها من خشب الزان وقام بتبطينها بالحرير هنا لجلسة الفارس مغزي هذا مايؤكده مفيد. يستقي مفيد أسطورة الفرسان العرب ليقول لك بطيبيته المعهودة: هذه "العضماية" حارب بها العرب الصليبين الغربيين.. والمسيحيون العرب وقفوا بجانبهم مثلما قال لي أجدادي، حيث صنع النجار القبطي للمسلمين سروج الخيول ليحاربوا الصليبيين. ويلفت النجار المخضرم النظر إلى أن أقباط الشرق يؤمنون أن الصليب عدة أنواع فيقول الأقباط حسب التراث الشعبي عنها: "صليب يداس" وهو الصليب الذي رفعه الأجانب لاحتلال أراضين.. وهناك "صليب فوق الرأس" وهو الصليب الذي رفعه أجدادنا الأقباط مع رايات المسلمين لمحاربة الغزاة القادمين من الغرب تحت ستار الصليب. يمسك مفيد بعض بقايا من "نورج" قديم كان يستخدمه المزارعون ويضيف: تعلمت كل فنون المهنة حتي طاحونة القمح التي كانت تديرها الحيوانات، ماعدا عصارة القصب التي كان يصنعها النجارون القدامي، لسبب وحيد وهو دخول الأدوات الحديثة في عصارات القصب. وقال: أنا أتحسر علي المهنة وعلي مالم أتعلمه، خاصة أنني مجبر أن أعمل لمدة ساعتين فقط في اليوم بسبب عمري الكبير وحالتي الصحية. يقول مفيد إنه اضطر أن يترك نجله الوحيد يشق طريقه في النجارة الحديثة في القاهرة، لكنه حزين علي أن الحكومة المصرية لا تهتم بميراث مهنة النجارة القديم وفي النهاية يتنهد عم مفيد وهو يوقف تدفق سيل الذكريات.