د. مجدي العفيفي ** أين أنت يا نداهة يوسف إدريس؟ .. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام».. في أجواء هذا المكان كان يوسف إدريس يحلم ويكتب حلمه الذي امتد إلى أكثر من نصف القرن من الزمن المتوتر في هذه المنطقة الأكثر توترًا دون كل بقاع الكرة الأرضية، إنها منطقة الشرق الأوسط التي حاول مصاصو دماء الشعوب ممن يسمون أنفسهم العالم الأول تحويلها إلى منطقة (الشر... الأوسط) لكن هيهات... كان يوسف إدريس بشخصه وشخصيته إحدى أقوى المرايا التي تجلي واقع هذه المنطقة.. لذلك كان يحلم وهو يكتب، أو يكتب وهو يحلم، إذ يمثل (الحلم) أحد أشكال اتصال يوسف إدريس بالواقع، إنه الحلم الذي لا يرادف أضغاث أحلام، لكنه الحلم وصولًا إلى القدرة والاستمرار في امتلاك القدرة على كشف الواقع، وتحريك القدرة في الآخرين على أن يحلموا هم أيضًا أحلامهم الخاصة، فالإنسان بلا أحلام، في رأيه، كائن أعمى، والحلم هو الأمل المبصر المستشرف، هو قدرته على أن يرى إلى الأمام وأن يجمع الماضي والحاضر والمستقبل في نقطة لقاء وهمي هي الفن، هي الجزء الثمين المتمرد في كل البشر، وكم كان يوسف إدريس يحلم بآمال كبار طرحتها رؤاه الشاملة المتشعبة على مدار عقود غليانه الإبداعي وتوهجه الفكري الذي ظل حتى آخر عمر ولا يزال. لم تكن أحلام الكاتب العظيم يوسف إدريس ذاتية بل كانت مجتمعية وأممية وإنسانية، وكان يحلم ويمارس الحلم على أرض الواقع برغم انكسارات هذا الواقع «إني أحلم بأن نصل إلى اليوم الذي نكتب فيه لأننا نحب شعبنا، ونحبه أن يكون أكثر الشعوب أدبًا وذوقًا وإنسانية، نكتب بدافع واجبٍ مُلح نُحسه إزاء مواطنينا ولا نملك إلا أداءه، نكتب لا لأننا نريد الخلود لأنفسنا، وإنما لأننا نريد الخلود لإنسانيتنا وقيمنا، لأننا نريد أن نصنع في بلادنا حضارة ليست انعكاسًا للحضارة الأوروبية، ولكن حضارة نابعة منا، حضارة من خلقنا وفكرنا، حضارة تثري بها حضارة عالمنا ونضيف إليها، ويكون أدبنا العربي وفننا وعلومنا وسيادتنا للوصول إلى هذا المستوى الحضاري أني أحلم بهذا..». ينظر يوسف إدريس إلي دور الكاتب ورسالة الفن، نظرة جادة تعبر عن كاتب منفتح في تعامله مع رسالة الفن والكتابة عمومًا «فالكاتب ليس صانع أوهام، المشكلة أن الفن العظيم هو أساسًا (عمل) عظيم، والكتابة الحقيقية ليست جملًا متراصة وكلمات، إنها (علم) حقيقي، وصراع حقيقي». * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». أبعد كل هذا يا يوسف إدريس تقرر اللا كتابة واللا قراءة؟ عام 1981؟ كنت أردد هذا التعبير متحسرًا ورافضًا وغير مصدقٍ أن يوسف إدريس وهو مبدع المائة قصة قصيرة وبها كان ضمن أفضل خمس كتاب للقصة القصيرة في العالم، ومبدع الروايات الرفيعة من قبيل الحرام والنداهة والعيب، وغيرها، يمكن أن يستقيل من عالم الكلمة الحرة والحيرى، وعالم الرؤية الحادة والجادة..!. في الجزء الأوسط من كتاب الاستقالة (يموت الزمار...) يوم السادس عشر من شهر أبريل 1982 تحدث عن الحياة ووصفها بأنها تصطخب في الدنيا وأنا صريع الحياة الموهومة بين دفتي كتاب وكلها من ورق، وكلها من حبر، ضيعت عمري أتعلم كيف أتعلم الكتابة، والبقية الباقية ضيعتها كيف أعلم ما في الكتابة، والنتيجة أني أنا نفسي استحلت إلى كلام وأصبحت روحي من ورق، وأحلامي ومتعتي كأنها كلها من حبر، بين كلمتين أو جملتين او صفحتين..أي حياة؟! وانتهى إلى اختيار الطرف الأول من ثنائية الموت والحياة، فالموت - في منظوره - ليس ضروريًا أن يكون صاعقًا مفاجئًا كالذبحة، إنه كأضرار التدخين أضعفها وأوهنها، وبريء تمامًا براءتها أو هكذا يبدو.. إنه الموت الأخطر والأبشع، الموت حياة كحياة الموتى، الموت سكونًا وسكوتًا وصمتًا، الموت تمردًا وقتيًا عالي الضجيج، فشديد الضجة يصم كشديد السكون. رغم اعترافه بأن الحياة.. تبثها موجات إثر موجات.. موجات صحيحة كالجنين الجميل القابل للتشكيل حسبما تريد، الحياة سامية شامخة بشرف وبلا مساومة أو إزعاج ضمير... الحياة الحلوة حقًا ليس دفعًا بالأكتاف ولا عدوانًا على الآخرين ولا أي عمل طيب بسيط تفعله حتى لو كان زيارة لسرير مريض مجهول لا أمل له ولا أهل، إذا كنت فقيرًا اعطه كلمة طيبة وبرتقالة، وإذا كنت غنيًا وقادرًا ابن له مستشفى. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». هنا كنت أرى الزمار يموت وأصابعه تلعب، فالعزف شكل موجات وجوده، وحتمًا يظل يعزف ويعزف إلى آخر الرمق، فالمسألة ليست هزلًا.. إن لها قانونًا.. وهكذا بدلًا من الموت كفرًا بأداء الدور.. أليس الأروع أن تظل تعزف، مهما بدا عزفك نشازًا وشاحبًا، فحتمًا سيأتي اليوم الذي يعلو ويجبر الناس من صدقه على السمع، أو حتى إذا لم يأتِ اليوم... فماذا تفعل؟ إنه وجودك، لا فكاك منه، فشمس الشموسة قد طلعت، وما أجمله من صباح.. سأجعله أسعد صباح عشته في حياتي، وسأقول لنفسي كل يوم سأجعل من هذا اليوم أروع أيام حياتي، ولن أدع شيئًا أبدًا أو شخصًا يحيله إلى يوم قبيح. الأمر صدر من إشعاعات الشمس الطازجة التي لا يزيد عمرها على ثماني دقائق: قم وافعل شيئًا تفخر به أمام نفسك وأولادك ويفخر به أحفادك، فأنت أعظم مخلوق في هذا الكون الفسيح الذي لا تصدق أبعاده.. أنت أروع ما فيه.. أنت الكائن الوحيد القادر أن يكون إنسانًا.. أتعرف ما هو الإنسان؟.. وفي نهاية الاستقالة ذيلها بملحوظة: برغم كل وأي أدوية أو عقاقير شفيت الجلطة من تلقاء نفسها.. الآن فقط متأكد أنها شفيت تمامًا، ولكن المشكلة، بعد، قائمة.. فما أزال حبيس قدري وموجاتي، مهما تحاييت أو تماوت أو مت، أيمكن أن يكون الحبيس سعيدًا؟ حتى لو كانت حياته في سجنه!.. أممكن أن يكون الحبيس سعيدًا؟. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». يقين غير مراوغ كان يدثرني بأن هذه الاستقالة مرفوضة، ليس فقط يسبب غواية «الأهرام»، بل أيضًا بسبب «النداهة». نداهة الكتابة..!! ولنا في موقف مماثل من ثلاثة من العمالقة أقدموا على الاستقالة من الكتابة، هم شيخ الأدباء توفيق الحكيم ، وفيلسوفنا زكي نجيب محمود والمبدع الروائي يحيى حقي، وأنا على ذلكم من الشاهدين وإلى اللقاء إن كان في العمر بقية..