يعمل عكس المألوف والنموذج المعتاد للأستاذ الجامعي، لا يكتفي بقاعات العلم وأوقات المحاضرات داخل المدرج لينقل علمه للطلاب، بل قرر أن يخرج بهم ومعهم إلي صحراء المماليك، والجلوس بحواري وشوارع القاهرة الفاطمية، وبين أعمدة الجوامع المملوكية، ليحرضهم ويحثهم علي "رسم مصر" كل يوم جمعة، الغريب في الأمر أن دعوته لم يؤمن بها طلابه فقط، بل امتدت رسالة مبادرته إلي عسكري الأمن المركزي والأم والابن، هو الدكتور محمد حمدي أستاذ الرسم وصاحب مبادرة "رسم مصر"، الذي يتحدث في السطور القادمة عن تفاصيل وفكرة مبادرته. قررت كدكتور بكلية تربية فنية- جامعة حلوان أن ترسم مصر مع مجموعة من طلابك.. فما فكرة المبادرة؟ اسمي محمد حمدي حامد، أستاذ الرسم والتصوير بكلية تربية فنية- جامعة حلوان، في البداية كنا في الكلية نقيم مجموعة من الأنشطة الطلابية مثل رسم الكاريكاتير، وكان ذلك النشاط وقتها يتم بالتعاون بين طلاب الكلية والجمعية المصرية للكاريكاتير، بعدها سافرت في بعثة خارجية، في تلك الفترة كنت مشرفاً علي النشاط الطلابي بالجامعة المُعار إليها، بعد عودتي كان في ذهني أن أقيم شيئاً بالشباب وللشباب ، أنا مغرم بقراءة التاريخ، ولكن التاريخ الموازي وليس التاريخ الموجود في الكتب، بعد فترة بدأت أكتب "بوستات" تاريخية، فوجدت هذه البوستات والمقالات لها صدى عند الكثير من الناس خاصة الشباب، من هنا جاءت فكرة"رسم مصر"، التى قامت على اصطحاب طلابي في جولات للأماكن التاريخية التي أكتب عنها، ثم يقوم كل واحد فينا برسم المكان من وجهة نظره، وحسب فهمه وانطباعة لتاريخ هذا المكان والشخصيات التي تعيش فيه. ما هو التاريخ الموازي الذي ذكرته وتبحث عنه؟ هو التاريخ المجهول أو المذكور علي استحياء في كتب التاريخ كجملة عابرة، أو سطر بين مؤلف ومجلد مكون من ألف صفحة، تاريخ وحكاوي البشر، والناس العادية أو الحرافيش كما أطلق عليهم الرائع أديبنا العالمي نجيب محفوظ، علي سبيل الذكر تجدني مغرماً لمعرفة قصة رجل كان يعمل "سقا" ذكره الجبرتي في احدى مؤلفاته. هل المبادرة مقتصرة علي طلاب كلية التربية الفنية فقط؟ في بدايتها عندما أطلقنها في شهر يوليو الماضي كان كل المشاركين بها طلاب كلية تربية فنية، لكن بعد ذلك وجدنا أن هناك أناسا كثيرة من أعمار مختلفة يطلبون المشاركة والانضمام إلينا، فأصبح بيننا الهاوي الذي يرسم المكان بشكل تكعيبي، وآخر محترفا يرسمه طبيعي، وبين الطالب الجامعي الذي يصطحب والدته في جولاتنا ليرسموا مصر معنا، طبعاً نحن سعداء بنشر الفن وتعريف الناس بتاريخ هذا البلد، لكن هذا أضاف علينا أعباء كثيرة، أبسطها توفير أدوات وألوان الرسم، خاصة أن المبادرة تطوعية وقائمة علي المجهود الذاتي. كم مكانا رسمتموه في مصر؟ رسمنا أماكن كثيرة جداً، والمكان الواحد يمكن أن نزوره أكثر من مرة، فعلي سبيل الذكر وليس الحصر، أبرز الأماكن التي قمنا بزيارتها "باب زويلة- جامع المؤيد شيخ- قصبة رضوان- شوارع الجمالية والحسين والمعز وباب الوزير- القلعة- باب العزب". ما أكثر شيء يسعدكم عند زيارة كل هذه الأماكن التاريخية؟ كل واحد منا تكون له أسباب سعادته الخاصة عندما يزور أي مكان من تلك الأماكن، لكن بشكل شخصي أكثر شيء يسعدني أنني الآن وجدت طلابي يقولون لي أنا رسمت جامع ومدرسة السلطان حسن، فهم الآن عرفوا تاريخ بلدهم، وأصبحوا يفرقون بين المدرسة والجامع، وعند زيارة أي مكان أصبحوا يحددون هذا المعلم هل هو مبني علي أي تراث، وفي عهد أي دولة، ولديهم القدرة اليوم علي التعرف علي المجموعة مثل "مجموعة خاير بك". علي قناتكم الخاصة علي موقع"اليوتيوب" يوجد فيلم تسجيلي لعسكري أمن مركزي يمسك بريشة و"اسكتش" رسم ويرسم معكم.. ما حكاية هذا العسكري؟ في مرة كنا في زيارة لصحراء المماليك لرسم جامع قايتباي، وقرقماس، وفرج بن برقوق، نقطة تجمع الفريق يومها كانت أمام مسجد الشرطة بالدراسة بجوار معسكرات الأمن المركزي، ونحن واقفون بالحوامل واللواحات وجدنا هذا العسكري يقترب منا ويسألنا ماذا نفعل؟.. فعرفناه بأنفسنا، فقال: "طيب أنا بعرف ارسم وأنحت.. ممكن تاخدوني معكم"، فرحبنا به، ووجدته يخرج من جيبه حجارة صغيرة جداً وناحتها علي هيئة طيور وأشخاص، هذا النوع من النحت نطلق عليه"النحت الفطري"، يعني هذا النوع به قيم فنية وجمالية لكن صاحبه غير دارس علوم النحت وبدأ يأتي معنا وينتظم في جولاتنا بأدواته الشخصية، واكتشفنا أن أدواته في النحت هي المسامير. سعادتي بهذا العسكري لا توصف لذلك سجلنا معه فلمان باسم "العسكري الموهوب"، هذا العسكري القادم من أسيوط واسمه إسلام الشعبي بعد أن ينهي خدمته يمكن أن يصبح فناناً حقيقياً، فلدينا نماذج كثيرة مثله مثل الفنان حسن الشاب ولديه متحف بالشرقية، وفي العالمية توجد مدرسة "هنري رسو". المحافظات دائماً بها طاقات إبداعية نطلق عليها "المواهب المدفونة".. لماذا لا تذهبون إلي هناك لتنقبوا عن هذه الكنوز البشرية؟ نحن نحتاج إلي دعم كبير، والدعم الذي أقصده ليس دعما ماديا، نحن نريد دعم لوجيستي فقط، نريد أن تستضيفنا المحافظات وتوفر لنا وسائل الانتقال إليها، ونحن علينا الباقي من وقت ومجهود وعلم، كل هذا نحن متبرعين به أنا وشريكي في المبادرة المهندس نادر الذي يأتي بأدوات تصويره وكاميراته الشخصية، نفسنا نرسم المحافظات، الحلم الثاني أن مجموعات "رسم مصر" تنتشر في المحافظات الأخرى. من خلالكم أناشد وزير الشباب والرياضة الدكتور أشرف صبحي وأعلم أن الرجل متفتح ونشيط جداً أن يتبني هذه المبادرة، ويوفر لنا فقط الدعم اللوجيستي. هناك إنتاج غزير من اللواحات يخرج أسبوعياً من بين أيديكم ماذا تفعلون به بعد ذلك؟ كل فترة ننظم بتلك اللوحات معرض، وهناك معرض الشهر القادم بكلية تربية فنية- جامعة حلوان، رئيس الجامعة وافق علي إقامته، ومنذ فترة جاءت مذيعة إحدى البرامج وعرضت لوحة وبيعت ب50 الف جنيه لصالح مستشفي أبو الريش، وأتمني أن يتم دعم هذه المعارض، ويخصص عائدها لأي عمل خيري أو لصالح الطلاب غير القادرين علي شراء أدوات الدراسة من ألوان وفرش ولوحات وخلافه. كم طالبا مشتركا بالمبادرة؟.. وما خطواتكم القادمة؟ بدأنا ب15 طالبا والآن تجاوزنا ال100 طالب، بخلاف الهواة الذين ينضمون إلينا، والخطوة القادمة هي محاولة التواصل مع الوزارات المعنية مثل الشباب والرياضة أو السياحة والآثار لدعم المبادرة وسفرنا إلي المحافظات. ما شكل مصر التي نفسك أن ترسمها؟ مصر بجد دولة كما نقول"زي الفل"، نحن كنزنا الحقيقي وكلمة سرنا في الناس في أهل هذا البلد، إحنا موهوبين بالفطرة، وشباب مصر لو أتيحت له الفرصة وتم التمكين له سنقود العالم كما كنا، أنا سافرت وشفت وعارف إمكانيات شبابنا جيداً. ما الفرق الذى أحدثه رسم مصر في شخصية طلابك؟ هو فرق في شخصيتي أنا، فجعلني أكثر هدوئاً، وتعلمت ما علي إلا السعي وأنتظر النتائج، جعلني أحب أكثر أولياء الله الصالحين، بالنسبة للطلاب والمشاركين جعل بينهم صداقة قوية، وحب وتكافل ومشاركة رائعة، وطبعاً ثقفتنا أكثر وأكثر. اختيار ورسم اسم المبادرة كيف تم؟ اختارنا شعار المبادرة من التصمميات"المملوكية" والخط الكوفي لرسمها، وكلمة "رسم مصر" قريب من عنوان كتاب "وصف مصر"، والشكل المرسوم به اسم المبادرة يشبه اللوجو الذي كان يوضع علي المنتجات المصرية في عهد الدولة المملوكية ويكتب عليها"شغل مصر"، كل هذه العوامل والأفكار هي من أخرجت الاسم ورسمه بالشكل الحالي.
ما الفرق بين مصر التي في لوحاتكم ومصر الواقع؟ دائما اللوحة تحاول أن تجمل الواقع، لآن الفنان انتقائي، فحتى لو رسم كوم قمامة سيرسمه بعينه الفنية الجميلة، للأسف مطلوب عالمياً أن لا تتحرك مصر أكثر مما هي عليه الآن، لآنها لو تحركت خطوة أكبر من ذلك ستقود العالم والمنطقة. ستظل ترسم مصر إلي متى؟ سأظل أرسمها لآخر يومي في حياتي، نريد أن تكون مصر دائماً جملة جميلة في ألحاننا ورسوماتنا وكتاباتنا وأحلامنا.