ما أن يقع على مسامعك أن «مولدوفا» دولة أوروبية، حتى يتبادر إلى ذهنك مشاهد متعددة لما تحمله ذاكرتك من صور عن الدول الأوروبية بما تتميز به من تحضر وثراء ورفاهية، وقد تظن أنها واحدة من الدول التى يتهافت الملايين حول العالم على زيارتها، ويتمنى البعض لو يحالفهم الحظ فى الحصول على فرصة الهجرة إليها.. ولكنك ستصطدم بحقيقة أن «مولدوفا» لا تشبه جاراتها فى القارة العجوز، وتقف حائرة بين ماضيها السوفيتى وحاضرها الأوروبى حيث ينقسم سكانها بين رغبة الغالبية فى الحفاظ على العلاقات الوطيدة مع روسيا، بينما يميل آخرون إلى أن تحذو البلاد حذو جارتها الرومانية والتطلع للاتحاد الأوروبى، بالإضافة لأزماتها الاقتصادية والسياسية المتعددة، مما جعلها الأكثر بؤسا وفقرا إلى حد تسابق سكانها على الفرار منها. ومن خلال عدة كلمات امتزج فيها الفرح بالحزن، نشر الطبيب إليسو ماتراجونا، المولدوفى الأصل، والذى هاجر منذ سنوات للعمل فى مدينة مونتريال الكندية، عبر حسابه على الفيسبوك، ليلخص محنة مولدوفا: «لا يمكننى وصف سعادتى لكونى أعمل ضمن الجيش الطبى المحارب للفيروس بالنظام الطبى الكندى، الذى يدير الأزمة بشكل جيد، إلا أن الحزن يملأ قلبى لأننى تلقيت اللقاح قبل والدتى، التى تعمل طبيبة فى مولدوفا».. فوالدته، التى تبلغ من العمر 61 عاما، أفنت نصف عمرها فى خدمة الرسالة السامية حيث عملت طبيبة أطفال على مدى 30 عاما، إلا أنها مازالت لا تعلم إذا كان سيتسنى لها – ولزملائها الذين يقدرون بنحو 53 ألفا ما بين طبيب وموظف فى الرعاية الصحية - الحصول على اللقاح أم أن انتماءهم للدولة الأوروبية الأفقر سيكتب عليهم محاربة الفيروس فى الصمت أو الرحيل فى هدوء!. ففى الوقت الذى انتهت فيه معظم حكومات دول أوروبا الغربية بالفعل من تطعيم الأطباء وانتقلت للمرحلة الثانية، حتى وإن عانت بعض الشيء من مشاكل الإنتاج وتعثر الإمدادات، فإن مولدوفا لم تستطع إعطاء حقنة واحدة، وذلك لأنها لا تستطيع شراء اللقاح. فالبلدان الأكثر تأزما اقتصاديا فى أوروبا، تلجأ لل «كوفاكس»، وهى منصة أطلقتها منظمة الصحة العالمية للدول الأكثر فقرا لإتاحة كميات مجانية من اللقاح لنحو 20% من سكان كل الدولة. أما بالنسبة لباقى الجرعات، التى يحتاجونها فيمكن لتلك الدول طلب المساعدة من جيرانها الأغنى. لا تقتصر الأزمة فى مولدوفا على شراء اللقاح بل تمتد إلى نظام الرعاية الصحية المنهك إلى حد الافتقار إلى أبسط وأهم المعدات والمستلزمات الطبية، التى من شأنها إنقاذ المرضى وحماية الطاقم الطبى. وهو ما يفسر التصاعد المستمر فى معدلات الإصابات والوفيات بها حيث ارتفع معدل الوفيات بنسبة 21 % فى الفترة ما بين مايو وديسمبر 2020، مقارنة بالفترة التى سبقتها. وبشكل عام، تجاوز عدد الإصابات بها ال 155 ألف حالة، وأكثر من 3300 حالة وفاة، فى حين يشار إلى أن الأرقام الحقيقية قد تتجاوز ما أعلن عنه بكثير. أما عن الطاقم الطبى، فإن الفيروس قد طال نحو 25% منهم، وهى النسبة الأعلى فى أوروبا، مقارنة ب 12 % فقط فى رومانيا المجاورة لها. وقد فضح الوباء ما تعانيه جمهورية الاتحاد السوفيتى السابق من نقص حاد فى التمويل وسوء الإدارة لخدمات الصحة العامة، وما قد يترتب عليه من آثار كارثية طويلة المدى، خاصة أن ثلث العاملين فى مجال الرعاية الصحية فى سن التقاعد، والأدهى أن متوسط الراتب الشهرى للطبيب نحو 430 جنيها إسترلينيا، وذلك بعد إقرار زيادة بنسبة 30% فى العام الماضى. وهو ما يدفع الأطباء الشباب فى مولدوفا للهجرة من موطنهم إلى بلدان أكثر ثراء بحثا عن مستوى معيشى أفضل. طبقا لما ذكرته صحيفة «الجارديان» البريطانية، غادر أكثر من مليون شاب مولدوفا، وإن كان بعضهم عاد مجددا بعدما فقدوا وظائفهم فى الخارج بسبب قيود الإغلاق أو لأنهم حصلوا على امتيازات تمكنهم من العمل عن بعد إلا أن المؤكد أن هذه الهجرة العكسية مؤقتة ولن تدوم طويلا ما لم تقدم الحكومة الدعم الاقتصادى لمواطنيها. لذا أشارت عدد من الدراسات الاستقصائية، التى أجريت مؤخرا، إلى أن اهتمام مواطنى الدولة بالأزمة الاقتصادية يفوق اهتمامهم بالأزمة الصحية، فالمرض لم يكن من ضمن المخاوف الخمسة الرئيسية التى يواجهها سكان مولدوفا، والتى يتصدرها مستقبل أطفالهم وارتفاع الأسعار والفقر والبطالة والفساد... إلا أنه مع بداية عهد رئاسى جديد بقيادة الرئيسة المنتخبة حديثا مايا ساندو، الخبيرة الاقتصادية التى كانت تعمل بالبنك الدولى، والتى طبقا لوعودها ستحصل على 200 ألف جرعة لقاح من رومانيا، بالإضافة لمنحة طارئة قدرها 15 مليون يورو من الاتحاد الأوروبى، يدب الأمل والتفاؤل الحذر فى قلوب الشعب المولدوفى.