سفير د. محمد بدرالدين زايد لاحظت خلال مشاركتى فى العديد من الندوات واللقاءات التى ناقشت ظاهرة التغلغل الإيرانى والتركى فى المنطقة، وطبعا التحدى الإسرائيلي المستمر، أنه دوما كان البعض يكشف نوعا من أولويات مختلفة، فالبعض مازال يركز على اسرائيل وحدها، ويحاول دوما ان يبحث عن خيارات اخرى فى التعامل مع تركياوإيران، وبعض آخر يعترف بأن إيران او تركيا تمثل تهديدا، ومع ذلك يعطى التبريرات لهذه أوتلك اوكليهما معا، وبفضل الوقاحة التركية فى الحالة الليبية تراجع المدافعون عنها أو على الأقل تحرجوا من تكرار هذا فى المرحلة الراهنة، أما إيران فهناك كثيرون فى نخبتنا الثقافية والعلمية يدعون الى مقاربة من نوع آخر معها، وفى جميع الأحوال تتكرر سرديات ومفاهيم معينة بعضها يستند الى أسس حقيقية وبعضها الآخر غير مؤسس على الحقائق العملية. وأبدأ بإزالة لبس وهو أننى لا أعارض ولم أعارض أبدا فى مسيرتى المهنية والأكاديمية، بل كنت من المنادين بفتح قنوات اتصال مع هذه الأطراف الثلاثة التى تحكمها معنا عربيا ومصريا اعتبارات تناقض إستراتيجي واضحة. والمعنى بسيط، ففى إدارة الصراع والدفاع عن المصالح، فان هناك العديد من الأدوات، من بينها الحوار والاتصال السياسى والدبلوماسى، والبحث عن المشتركات وإيجاد سبل العيش المشترك، واذا كان العالم العربى قد قبل إسرائيل بشروط منذ مبادرته العربية، فان تركياوإيران طرفا جوار تاريخى، لن يختفيا، مثلما لن يستطيع أحد أن يفعل هذا معنا. لكن من المفيد فى بناء إستراتيجيات التعامل مع هذه الخصوم – وأقولها بهذا الشكل بوضوح –أن تكون لدينا رؤية واضحة فى تفسير التناقضات، وفى فهم الدوافع، خاصة ما لمسته منذ سنوات من وجود رأى يحمل العالم العربى مسئولية اندفاع هذه الأطراف نحو سياستها العدوانية، وفى الواقع أن تغلغل هذه الأطراف نتيجة للضعف العربى ولأخطاء حسابات وسياسات بعض الدول الكبرى، وإذا نحينا إسرائيل التى لا نجد لها مدافعين علنيين إلا قليلا، فان حالتى تركياوإيران مختلفتان، ومازال البعض يصر على وضع انتماءاتهما وروابطهما الإسلامية فى جملة مفيدة, كذا علاقاتهما بإسرائيل رغم تباين الحالة التركية عن الإيرانية بهذا الصدد. وبالطبع هناك تباين بين حالتى ايرانوتركيا، فهناك قلة مدافعة عن تركيا مرتبطة بمشروعات الإسلام السياسى بشكل عام، والبعض الذى كان يتحدث عن روابط ثقافية وتاريخية، وعن أوهام عداء مشترك لإسرائيل أو عن اعتبارات براجماتية ومصالح اقتصادية، جميعهم كان لايريحهم وضع تركيا وإسرائيل فى خانة واحدة، والبعض الذى تحدث عن أخطاء عربية فى احتواء الظاهرة تجاهل فى الحقيقة أن أحدا من العالم العربى لم يحارب تركيا الحديثة، ولم يناهض أردوغان، بل كان هناك ترحيب مبالغ فى بداية هذا القرن لعودة دور تركى فى المنطقة، أتفهم الترحيب بعودة تركيا لجذورها وهويتها الإسلامية وأقدره، ولكنى شخصيا كنت أراه منذ البداية خطابا من أطر توظيف الدين فى السياسة عموما، وأرى فيه أحلاما إمبراطورية، وعموما لم يستقبل العالم العربى أردوغان وحزبه إلا بكل الترحيب والمودة، ولم يحرض ضده فى أى مرحلة، ومن ثم يلام العرب لأنهم كانوا ضعفاء وغير موحدين ولا يلامون على سياسات ضد تركيا، فالأخيرة هى التى تعتدى وتتدخل وتمزق أشلاء النظام العربى. العقدة إذن فى لغة بعض الخطاب السياسى العربى بشان إيران ، والتى يطرح البعض أحيانا، أن العرب هم الذين بادروها بالعدوان وتحديدا فى الحرب العراقية – الإيرانية بعد ثورتها، وأن شعورها بالعزلة والتضييق ضدها هو الذى دفعها للتغلغل والعدوان والسيطرة على عدة عواصم عربية، وأنهم أى العرب يسيرون خلف واشنطن بهذا الصدد، وفى الحقيقة أن المسألة أعقد من هذا بكثير، ربما يكون من الضرورى البدء بأن حسابات صدام حسين الخاطئة قد سببت فى تعقيد هذه العلاقات، وهى خاطئة لأنه ظن أن تشجيع بعض الأطراف الغربية والعربية ضد هذا النظام الجديد سيتيح له الانتصار واستعادة أراض عربية مغتصبة منذ عقود سابقة، ولأنه يدرك الخريطة الطائفية المعقدة فى بلاده وكان يخشى من تغلغل هذه الأفكار فى النسيج الشيعى العراقى، ولكن نهج الحرب الذى اتبعه سواء آنذاك أو بعد ذلك فى الكويت هو الذى تسبب بشكل حقيقى فى تحقق هذه المخاوف. ولكن ما ينساه المدافعون عن إيران أن طرفا عربيا رئيسيا وهي سوريا دعمت طهران ضد العراق وأن علاقاتها بكثير من الأطراف العربية لم تتعرض لأى اهتزاز خلال هذه الحرب الطويلة، وينسون أيضا تردد معلومات شبه مؤكدة عن تعاون إيرانى – إسرائيلى عسكرى خلال هذه الحرب، وأنه بعد انتهاء الحرب تحولت العلاقات الإيرانية مع أغلب الدول العربية الى حالة طبيعية إيجابية باستثناء مصر التى هى حالة خاصة، وينسى البعض ان إيران هى التى قطعت العلاقات مع القاهرة، وعموما هذه حالة خاصة نتركها جانبا الآن، ولكن ما يهمنا أن أغلب الدول العربية كان لديها علاقات ايجابية مع النظام الإيرانى، وازدهرت ملفات تعاون اقتصادى واحيانا ثقافى مع الدولة الإيرانية. ولكن ما حدث أنه عندما استقر النظام الإيرانى وبدأ الضعف الإقليمى العربى وبشكل خاص خلال العقود الأخيرة تبدلت هذه السياسات الإيرانية التى كانت ستحدث فى جميع الأحوال – بسبب طبيعة النموذج السياسى والحضارى الإيرانى ولهذا حديث منفصل - ايا كان مدى وجدية محاولات التقارب العربى – الإيرانى، ولعل دراسة نماذج تدخلها فى المنطقة كاشفة بهذا الصدد. وفى الواقع أن المسألة بتفاصيلها شديدة التعقيد، ولكن من الضرورى فى بناء استراتيجيات متكاملة تجاه هذه الأطراف المعتدية، ومنها ايران، التقدير الدقيق لتوجهاتها وبناء حسابات عقلانية وليست عاطفية مربوطة بملف آخر هو الإسرائيلى.