د. محمد السعيد إدريس فى أوج التصعيد المتبادل بين إيران من جهة والولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الحليفة من جهة أخرى دفعت واشنطن بموقفين متناقضين بخصوص كيفية حل معضلة الأزمة المتفجرة حول الملف النووي الإيراني. الموقف الأول جاء على لسان وزير الدفاع الأمريكى الجديد لويد أوستن، فى وقت ازدادت فيه الضغوط الأوروبية على إيران للتراجع عن خطوة إنتاج اليورانيوم المعدنى التى أكدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية (8/2/2021) بقولها إنها "تحققت من وجود 3٫6 جرام من اليورانيوم المعدنى بمنشأة أصفهان". فقد أعلن البنتاجون أن لويد أوستن وزير الدفاع "يعتقد أنه لا يمكن إيجاد حل فى منطقة الشرق الأوسط دون حل مسألة الملف النووى الإيرانى". هذا النوع من التصريحات يمكن وصفه ب "التصريحات الملتبسة" لأنه يحتمل أكثر من تفسير، وربما يكون هذا ما يعنيه وزير الدفاع الأمريكى. فهو يحمل تهديداً عسكرياً، بمعنى التلويح بالحل العسكرى لأزمة الملف النووى الإيرانى كحل، ربما يكون وحيداً، لاستعادة الأمن والاستقرار للشرق الأوسط، كما تريده الإدارة الأمريكية الجديدة، وربما يكون يستهدف العكس، أى تأكيد أنه لا أمل فى أمن واستقرار الشرق الأوسط دون إيجاد "حل سياسى" لأزمة البرنامج النووى الإيرانى. إلى جانب هذه الحيرة التى يتضمنها تصريح وزير الدفاع الأمريكى الجديد، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن لتعلى من شأن "الحلول الدبلوماسية" لأزمة البرنامج النووى الإيرانى. فعلى الرغم من إعادة تأكيده رفض الرئيس الأمريكى جو بايدن من تمكين إيران من امتلاك أسلحة نووية، ورفض الإدارة الأمريكية مبادرة "الاقتراحات المتزامنة" التى طرحها وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف الأسبوع الماضى وتقضى بأن يتزامن إعلان واشنطن رفع العقوبات عن إيران مع تزامن تراجع إيران عن خطواتها التصعيدية النووية الأخيرة،اعتبر بلينكن أن "الدبلوماسية المبدئية" هى المسار الأفضل لضمان عدم امتلاك إيران السلاح النووى" وفى معرض الاحتفاء بأداء صديقه روبرت مالى الذى عينته إدارة بايدن مبعوثاً خاصاً لإيران، رغم اعتراضات حادة من أصدقاء إسرائيل وحلفاء الرئيس السابق دونالد ترامب، كتب بلينكن تغريدة عبر "تويتر" قال فيها إن "الدبلوماسية المبدئية هى أفضل سبيل لعدم حصول إيران على سلاح نووى". لم يشرح ولم يوضح بلينكن ماذا يعنى ب "الدبلوماسية المبدئية" لكن يبدو أن واشنطن تريد بالدبلوماسية وبالمسار الدبلوماسى تحقيق نجاحات تراكمية تؤدى فى النهاية إلى "إعادة بناء الثقة" مع إيران والاقتراب خطوة خطوة نحو انجاز مسار يحقق العودة الأمريكية للاتفاق ويقنع إيران هى الأخرى بالتراجع عن خطواتها التصعيدية فى المسار النووى». يوجد العديد من المؤشرات التى تدل على ذلك كما توجد أيضاً مؤشرات تدل على أن هذه الرسالة وصلت بهذا المعنى إلى إيران، ولا يبقى إلا التفاهم الأمريكى مع الحلفاء والشركاء بهذا الخصوص. من أبرز هذه المؤشرات الأمريكية التصريحات التى أدلت بها "جين ساكى" المتحدثة باسم البيت الأبيض وقالت فيها إنه "إذا عادت إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها، بموجب الاتفاق النووى، فستفعل الولاياتالمتحدة الشىء نفسه". هذا عن تأكيد جدية النوايا الأمريكية للعودة إلى الاتفاق، أما عن الوسيلة فقالت أنه "من الممكن أن تكون هناك محادثات مع الشركاء والحلفاء من خلال مجموعة 5+1، لكن ذلك سيكون الخطوة التالية فى العملية". ربما تكون هذه هى المرة الأولى التى يصدر فيها تصريح عن إدارة جو بايدن تتم فيه الإشارة إلى "مجموعة 5+1" وهى مجموعة القوى الدولية التى أنجزت الاتفاق النووى عام 2015 وتضم الدول الكبرى الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن : (الولاياتالمتحدةوروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا إضافة إلى ألمانيا). العودة لها معنيان، أولهما أن الولاياتالمتحدة عادت لتعتبر نفسها طرفاً معنياً بالاتفاق النووى الذى شاركت فى صنعه، ما يعنى وجود حرص أمريكى للعودة إلى الاتفاق. وثانيهما، مد اليد الأمريكية للشركاء فى هذا الاتفاق وخاصة كلا من روسيا والصين إلى جانب الحلفاء الأوروبيين بالطبع (ألمانياوفرنسا وبريطانيا) لتجديد التباحث فى العودة الثنائية الأمريكيةوالإيرانية للاتفاق. الأوروبيون دخلوا على هذا الخط الدبلوماسى فعلى الرغم من اتفاق فرنسا مع كل من ألمانيا وبريطانيا على إدانة التصعيد النووى الإيرانى واستنكاره والتحذير منه، إلا أنهم حرصوا على تدعيم المنحى الدبلوماسى الأمريكى واعتبروه "فرصة" لتجاوز الخطر، وحثوا إيران فى بيان ثلاثى على "عدم تقويض فرصة تجدد الدبلوماسية لتحقيق كامل الاتفاق النووى". روسيا التقطت، بدورها، هذا الخيط، ويبدو أنها لم تجد لديها فرصة قوية للتوسط بين واشنطنوطهران بسبب مشاكلها مع الولاياتالمتحدة وأوروبا فى ملفات كثيرة ، لذلك باتت أقرب إلى الدخول فى مسار "الشراكة الدبلوماسية الجماعية" ضمن إطار "مجموعة 5+1"، لكنها حذرت الإدارة الأمريكية من المماطلة فى رفع العقوبات عن إيران، تأتى المؤشرات الإيرانية لترفع من نسبة التفاؤل بهذا المسار الدبلوماسى الذى يبدو أنه الأرجح الآن بالنسبة للأمريكيين. ففى خطاب الاحتفال بعيد الثورة الإيرانية الثانى والأربعين تحدث الرئيس الإيرانى حسن روحانى بحماس عن "نهاية قريبة للعقوبات" وكان لافتاً استخدامه، هو الآخر، صيغة "مجموعة 5+1" فى حديثه عن المقاربات الدبلوماسية المحتملة بدلاً من الحديث عن "مجموعة 4+1" التى سبق أن استخدمتها إيران منذ الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى. هذا التحول فى الحديث إلى صيغة "5+1" يعنى أن طهران باتت شبه مؤكدة بوجود فرصة لإعادة إحياء هذا المسار الدبلوماسى الجماعى. وهنا يجدر التساؤل: هل عادت طهران لتقبل إعادة التفاوض على الاتفاق النووى الذى كانت ترفضه بشدة؟ وهل ينوى جو بايدن وإدارته خوض تجربة "صبر إستراتيجى تفاوضى" مع إيران؟ وإذا كان ينوى ذلك هل يملك القدرة عليه؟ وإذا لم يكن يملك القدرة فما هى البدائل فى ظل تحولاته المهمة فى إدارة علاقاته مع حلفاء واشنطن الإقليميين؟ أسئلة تفاقم من التحديات التى تتهدد مسار "الدبلوماسية المبدئية" الجديد التى أختارت إدارة بايدن أن تخوض غماره، كما أنها تحمل معها مخاطر ما ألمح إليه لويد أوستن من احتمال، ولو ضئيلا، للعودة إلى التلويح ببدائل الحل الدبلوماسى.