د.محمد فايز فرحات في الوقت الذي مازال البعض يهاجم مشروعات خطوط النقل البحري والبري الضخمة في مصر، بكل أنماطها بدءًا من قناة السويس الجديدة وانتهاء بمشروع القطار السريع بين العين السخنة ومدينة العلمين، ومرورًا بالمشروع القومي للطرق الذي يعيد تعريف الواقع الجغرافي والاقتصادي داخل مصر، فإن العالم يسير بسرعة شديدة نحو إعادة بناء خطوط النقل والتجارة، ليس على المستوى الداخلي فقط، ولكن على المستوى القاري. فى اللحظة الراهنة، هناك مجموعة من المشروعات الضخمة التى يجرى تنفيذها بالتزامن. الصين تقف وراء مشروعها الضخم «الحزام والطريق»، الذى يتضمن مكونه البرى ستة ممرات اقتصادية ضخمة تربطها بأقاليم جنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، ووسط آسيا، وأوروبا، عبر حزمة من خطوط السكك الحديدة السريعة والخطوط البرية عالية الجودة (بجانب مكونات اقتصادية أخرى عديدة، مثل خطوط نقل الغاز والنفط، والمناطق الاقتصادية). بينما يقوم مكونه البحرى على تعميق الربط بين الموانئ البحرية الصينية على سواحل المحيط الهادئ والموانئ الأوروبية مرورا بالمحيطين الهادئ والهندى والبحر الأحمر وقناة السويس، بجانب السواحل الشرقية الإفريقية. فى المقابل، تقف الهند بالتعاون مع دول عدة، وراء حزمة من المشروعات. فتقف مع اليابان وراء مشروع «ممر آسيا- إفريقيا للنمو»، الذى تم الإعلان عنه فى نوفمبر 2016، والذى يهدف إلى تعميق ربط البنية التحتية وطرق التجارة بين إفريقيا وإقليمى شرق وجنوب آسيا. كما تقف الهند مع روسياوإيران وعدد من دول وسط آسيا وراء مشروع «ممر الشمال- الجنوب»، والذى يتضمن شبكة متعددة الأنماط من طرق التجارة الدولية (البحرية والبرية والسكك الحديدية) تربط بين أقاليم جنوبى آسيا، وغربى آسيا (إيران ومنطقة الخليج العربي)، ووسط آسيا، والقوقاز، وروسيا، وصولا إلى شمال أوروبا. كما تقف اليابان وراء مبادرات عدة لتنمية البنية التحتية فى منطقة «الإندو- باسفيك». الأمر يتجاوز بناء خطوط السكك الحديدية السريعة والطرق البرية عالية الجودة وبناء وتطوير الموانئ، ليشمل تغيير الجغرافيا القائمة من خلال شق المزيد من الممرات والقنوات البحرية. من ذلك على سبيل المثال، المشروع الصينى لشق قناة «كرا» Kra التى تستهدف الربط بين المحيطين الهندى والهادئ عبر الربط بين بحر آندامان وخليج تايلاند عند برزخ «كرا» (تايلاند). كذلك، المشروع الإيرانى لحفر قناة تربط بحر قزوين بالمحيط الهندى أو بالخليج العربى (مسارين مختلفين مازالا مطروحين)، والمعروف باسم مشروع «نهر إيران»، وهو مشروع يحظى بدعم روسيا (التى تمتلك شواطئ على بحر قزوين)، بالنظر إلى ما يوفره لها من فرصة للنفاذ إلى المحيط الهندى أو الخليج العربي. كما تقف مصر وراء مشروع «القاهرة- كيب تاون». هذه ليست سوى أمثلة محدودة جدا لعشرات المشروعات الضخمة التى تجرى فى العالم، بهدف تعميق ربط البنية التحتية على أساس عابر للأقاليم. وبعيدا عن الدوافع السياسية والأمنية التى تقف وراء طرح هذه المشروعات، لكن يظل البعد الاقتصادى حاضرا بقوة؛ إذ يمكن القول إن فلسفة أساسية باتت تحكم العالم الآن، وهى الاتجاه إلى تعميق الربط المادى connectivity بين الاقتصادات الدولية، عبر بناء طرق جديدة للتجارة جنبا إلى جنب مع تطوير الطرق التقليدية وجعلها أكثر أمنا. تعميق الربط هنا يتجاوز الجانب المادي، ممثلا فى طرق التجارة، حيث يشمل أيضا تعميق «الارتباط الرقمي» من خلال التوسع فى شبكات وخطوط الألياف الضوئية، وهو ما يعكسه طرح الصين أيضا «طريق الحرير الرقمي» الذى يركز بالأساس على تطوير شبكات الاتصالات والمدن الذكية، وخدمات التجارة الإلكترونية.. إلخ. مرة أخرى، بعيدا عن الدوافع السياسية، فإن تعميق ربط البنية التحتية أصبح جزءا من توجه عالمى لتعزيز وخلق التجارة العالمية واستدامتها، فضلا عن أبعادها التنموية المهمة. الكثير من هذه المشروعات تم تنفيذها بالفعل، وبعضها الآخر قيد التنفيذ أو الدراسة. لن تستطع أى دولة الاستفادة من هذا التوجه العالمى الجديد إذا قررت أن تظل معزولة عن تلك المشروعات، أو إذا ظلت بنيتها التحتية الداخلية غير مؤهلة للربط بالطرق الدولية (البحرية أو البرية أو الحديدية). إضافة قناة السويس الجديدة أَهَّلَ مصر لتعميق ربطها بطريق الحرير البحرى الذى يُتَوَقْعْ أن يؤدى إلى زيادة كبيرة فى تدفقات التجارة والنقل البحرى بين أوروبا وأقاليم شرق وجنوب آسيا والسواحل الإفريقية. هذه الرؤية يجب أن تكون حاضرة لدينا أيضا فى فهم حزمة المشروعات المصرية فى مجال تحديث الطرق البرية والسكك الحديدية الداخلية. كيف يمكن لمصر الاستفادة من مشروعات الربط القارى دون وجود شبكة طرق داخلية عالية الجودة تربط أكبر عدد ممكن من المدن والمحافظات المصرية؟ الفلسفة ذاتها هى التى حكمت اتجاه الصين إلى ربط العديد من مدنها فى الوسط والغرب بمدن أوروبية عبر شبكة من خطوط السكك الحديدية، مرورا بدول وسط آسيا. هذه الخطوط حولت هذه المدن الصينية إلى مناطق منشأ لسلع قابلة للتجارة العالمية، وعمقت علاقاتها بالاقتصاد العالمي، بعدما كانت مدنا حبيسة تعانى من الفقر. الأمر ذاته سيحدث فى مصر مع استحداث هذه الشبكة الداخلية المهمة المؤهلة للربط الدولي. القراءة الأوسع لما يجرى حولنا فى العالم ستوفر لنا مدخلا لفهم أدق وأعمق لما يجرى حاليا فى مصر، وذلك بدلا من أن نختزله فى «كوبري» أو مجرد «قطار» كما يُصِرُ البعض على ذلك.