د. عبدالعليم محمد فى ديسمبر من عام 2019، حرصت السيدة فاتوبنسودا المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بأنه ثمة أساس معقول للاعتقاد بأن ثمة جرائم حرب ارتكبت فى الضفة الغربية، بما فى ذلك القدسالشرقية وقطاع غزة، دون أن تعين مرتكبيها، سارع الرئيس الأمريكى السابق وغير المأسوف على رحيله بتوقيع عقوبات عليها فى سبتمبر من العام ذاته، وبرحيله طلبت السيدة المدعية العامة من الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن رفع هذه العقوبات. هذا الإعلان من جانب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية تلازم مع رغبتها فى إجراء تحقيق أولى فى هذه الجرائم، وكان مثل هذا الإجراء يتطلب حسم الجدل القانونى حول أهلية واختصاص المحكمة وامتداد ولايتها الإقليمية على الأراضى الفلسطينية؛ الضفة الغربية بما فيها القدسالشرقية وقطاع غزة، وهى الأراضى التى لا تزال تخضع للاحتلال الإسرائيلى منذ عام 1967؛ رغم إعادة الانتشار وفقا لإعلان المبادئ الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، ورغم إعادة الانتشار لقوات الجيش الإسرائيلى الأحادية حول غزة، وتطلب حسم هذا الجدل القانونى أن تطلب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية من قضاة المحكمة النظر فى هذا الأمر. فى 5 فبراير الحالى أصدر قضاة المحكمة القرار القاضى بأن المحكمة والتى مقرها فى لاهاى لها ولاية قضائية على جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وذلك وفقا للوثائق الخاصة بتأسيس المحكمة الجنائية والتى لا تشمل أى محاولة لتحديد وضع دولة حيث إن ذلك عملية سياسية معقدة، لا تدخل فى نطاق صلاحيات المحكمة، ولا أى منازعات قانونية حول الحدود، وأن المحكمة تمتد صلاحياتها للنظر فى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة والعدوان. ورغم اقتصار قرار قضاة المحكمة على تعيين ولايتها القضائية للنظر فى الجرائم التى وقعت فى الأراضى المحتلة، دون أن يحدد مرتكبيها، فإن هذا القرار يكمل القرارات الدولية الخاصة بانطباق معاهدة جنيف الرابعة على الأراضى المحتلة الفلسطينية وانطباق قواعد القانون الإنسانى فى الحالة الفلسطينية، وكذلك القانون الدولى وقواعده التى لا تجيز ضم الأراضى بالقوة أو الحصول على مكاسب إقليمية نتيجة العدوان، ومن ثم فإن القرار رغم طبيعته القانونية فإنه يستكمل منظومة القواعد والقوانين الدولية المعنية بحقوق الشعب الفلسطينى غير القابلة للتصرف. لقد فهمت إسرائيل المعنى المستقبلى لهذا القرار ووصفه نيتانياهو بأنه تسييس للمحكمة، وأنها بذلك تصبح هيئة سياسية بل ومعادية للسامية، وأنها تحول دون أن تدافع الديمقراطية الإسرائيلية عن نفسها فى مواجهة القتلة وتهديد سكانها، فى حين أن السلطة الفلسطينية اعتبرت القرار انتصارا دبلوماسيا ،وأنه يشكل على الأقل انتصارا أخلاقيا وانحيازا لقيم الحق والعدالة والأخلاق. نجحت الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية والشعبية من خلال الجهود المنظمة من قبل الجهاز السياسى والدبلوماسى الفلسطينى ومنظمات المجتمع المدنى الفلسطيني، التى استطاعت المرة تلو الأخرى تقديم الملفات والقرائن والشواهد الدالة على جرائم الحرب الإسرائيلية من خلال نتائج الاعتداءات الثلاثة التى قامت بها إسرائيل على غزة وكان آخرها عام 2014، والذى راح ضحيته وفقا للمصادر الدولية ألفان ومائتان وواحد وخمسون شهيدًا فلسطينيا، أغلبهم من المدنيين والمسنين والأطفال، وأعقب هذا العدوان صدور تقرير جولدشتاين، الذى انتقد النظام القضائى الإسرائيلى ومهنيته واحترافيته، كما انتقد المعايير التى يستند إليها والتى لا تفضى إلى الإدانة المستحقة لمرتكبى هذه الجرائم. من الممكن أن يشكل هذا القرار بامتداد الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على الأراضى الفلسطينية المحتلة بداية حقبة جديدة فى مجال النضال السلمى والمدنى الفلسطينى أو فى حياة الدولة الإسرائيلية التى عاشت ولا تزال كما لو كانت محصنة ضد القانون الدولى أو تحظى باستثناء على مر العقود، وقد يفتح القرار صفحة جديدة لمساءلة إسرائيل عن جرائمها فى الأراضى المحتلة وضد أبناء الشعب الفلسطيني. وبالرغم من الطبيعة القانونية والنظرية والرمزية لهذا القرار فإن فتح تحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية فى الجرائم الإسرائيلية قد يستغرق وقتاً طويلا، ويتطلب توافر العديد من الشروط فى مقدمتها، توافر الحدس والقرائن المعقولة التى تسمح بالتفكير بأن ثمة جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة قد وقعت فى دولة من الدول، ومن الممكن أن يكون ذلك الشرط متوافرا لدى المحكمة أو المدعية العامة منذ العدوان المتكرر على غزة أو تقدم الجانب الفلسطينى بمعلومات ووقائع ومستندات تفيد وتؤشر إلى وقوع هذه الجرائم، وتوفر مثل هذا الحدس وتلك القرائن، خاصة أن ثمة وقائع خطيرة مثل وفاة عدد كبير من الأشخاص من بينهم أطفال أو نساء ومسنون من عائلة واحدة بسبب عملية إسرائيلية فى منطقة مكتظة بالسكان المدنيين. أما الشرط الثانى فيتمثل فى قبول الحالة المراد النظر فيها وإجراء التحقيق بشأنها، ويتوقف هذا الشرط على عنصرين الأول منهما أن التحقيق فى الحالة يخدم مصالح العدالة أى يحقق هدف المحكمة الجنائية الدولية فى إرساء العدالة، وإنصاف الضحايا من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة، أما العنصر الثانى فيتعلق بخطورة الحالة المعنية واندراجها ضمن الجرائم التى تنظر فيها المحكمة. أما الشرط الثالث والأهم والذى يعتبر من المفاهيم المهمة التى قدمتها وثائق المحكمة الدولية فيتعلق بالتكاملية حيث يستوجب هذا المفهوم قيام السلطات الوطنية بالتحقيق فى الوقائع وفق معايير مهنية وقانونية تحظى بالثقة والمقبولية، وذلك بسبب تمسك الدول المنضمة لاتفاقية المحكمة بالسيادة الوطنية، وأن المحكمة الجنائية تقوم بإجراء التحقيق، فى حالة عدم قيام الدولة المعنية بهذا التحقيق أو رفض الدولة القيام بالتحقيق، أو أنها غير قادرة على إجراء هذا التحقيق. وفى حال إعلان الدولة بأنها تقوم بعمل التحقيق، وأنها تحيط المحكمة الجنائية علما بذلك فإن المدعى العام للمحكمة ينتظر انتهاء هذه المهمة. وبناء على ذلك فإنه من المتوقع أن تماطل إسرائيل، أو أن ترفض قيام المحكمة بالتحقيق وترفض استقبال بعثة التحقيق، أو تدعى أنها تقوم بإجراء التحقيق، وأنها ستوافى المحكمة بالنتائج، وفى كل الأحوال والاحتمالات فإن صفحة جديدة قد بدأت فى النضال الفلسطينى ينبغى البناء عليها، وأنه آن الأوان أن تحظى جرائم إسرائيل بالعقاب وأن يحظى ضحاياها من أبناء الشعب الفلسطينى بالعدالة والإنصاف.