تكتب منذ عقد من الزمان والعالم يتابع باهتمام الوضع السياسي في تونس التى شكلت حالة استثنائية فى ثورتها التى أشعلت فتيل الثورات فى المنطقة. لكن مصير هذه الثورة لا يزال مبهما، خاصة أن تونس لم تبارح مكانها ولا تزال تعاني مشكلات اقتصادية واجتماعية جمة، ولاتزال تلاحقها اضطرابات سياسية تكاد تسقط معها الدولة، في كل مرة، في أتون فوضى عارمة ومصير مجهول؟ بعدما تحولت الساحة السياسية داخلها إلى أشبه بحلبة صراع مفتوح بين مختلف القوى السياسية. وصل الصراع السياسى فى تونس الى ذروته بعد التعديل الوزارى الذى تقدم به رئيس الحكومة، هشام المشيشي، ورفضه رئيس الدولة، قيس سعيد،بسبب تضمنه اربعة أسماء تلاحقهم شبهات فساد وتضارب مصالح. وبدل التوافق حول الأسماء المقترحة او تغييرها، اختار رئيس الحكومة، بتحريض واضح من أكبر حزبين فى البرلمان، تجاهل رفض الرئيس والذهاب بوزرائه لنيل ثقة البرلمان، معتبرا أن تسلم الوزراء لمهامهم مسألة وقت فقط. اما رئيس الدولة، المدعوم أيضا بجناح مواز داخل البرلمان، فلايزال متمسكا برفض أداء اليمين الدستورية للوزراء الجدد (11 وزيرا) بعد قرابة اسبوعين على منحهم الثقة من البرلمان. هذا الوضع المأزوم أدخل البلاد فى حالة انسداد سياسى مفتوحة على كل الاحتمالات فى ظل غياب محكمة دستورية تفصل فى هذا النوع من الخلافات بين مؤسسات الدولة، وتلجم جميع الأطراف السياسية عند خروجهم عن الطريق السليم.واذا كان هناك إجماع بأن الأزمة الحالية قد أدت الى قطيعة تامة بين السلطات، فيجب الإقرار أنها ليست مجرد أزمة سياسية بين فصائل متناحرة، وليست أيضا ازمة أيديولوجية بين حزب إسلامى ومعارضة حداثية، انما الازمة هى فى جوهرها تشريعية، بسبب نظام الحكم البرلمانى المعدل الذى تبنته تونس فى دستورعام 2014، وبسبب قانون انتخابى يعانى ثغرات كبيرة، ما أنتج شتاتا برلمانيا عمق أزمة البلاد أكثر. نظام الحكم فى تونس يمنح رئيس الحكومة، مرشح الحزب الفائز فى الانتخابات، صلاحيات تنفيذية واسعة، بينما صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب بصفة مباشرة، فهى تنحصر أساسا فى مسائل الدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية. وفى حملته الانتخابية وفى كثير من خطاباته، لمح رئيس الدولة، قيس سعيد إلى رغبته فى تعديل النظام السياسى نحو نظام رئاسى مع تعزيز الصلاحيات للحكم المحلي. ومع وصول أزمة الوزراء الى ذروتها، استغل رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، الوضع ليؤكد ضرورة قيام نظام برلمانى كامل فيه فصل حقيقى بين السلطات، والسلطة التنفيذية كلها فى يد واحدة، فى يد الحزب الفائز بالانتخابات، وهو الذى يقدم رئيسا للوزراء. من خلال هذه التصريحات المباشرة، يبدو ان هناك فى الكواليس معركة كسر عظم بين مؤسسة الرئاسة التى تسعى الى ممارسة صلاحياتها كاملة، وبين رئاسة البرلمان ممثلة فى حركة النهضة، الحزب الاغلبى فى الانتخابات التشريعية الاخيرة، الذى يسعى الى تغيير نظام الحكم بما يمكنه، اليوم ومستقبلا، بالانفراد بالسلطة، مادامت أصوات الشارع تصب فى مصلحته، ومادام يشكل أكبر الكتل البرلمانية منذ 2011 إلى اليوم. وفى ظل غياب هيئة رقابية ممثلة فى المحكمة الدستورية، التى أريد لها ألا ترى النور من جهات معينة أولاها حركة النهضة،فالأزمةالحالية تبقى نسخة معدلة من أزمات سابقة؛ فى عهد الرئيس باجى قائد السبسى ورئيس حكومته يوسف الشاهد (حيث كانت تدب الخلافات بين المؤسستين فى كل مرة يطرح فيها تعديل وزارى) لكن هذه المرة بثلاثة رؤوس عوضا عن اثنين، بعدما دخلت حركة النهضة على الخط باعتبارها ممثلة لسلطة ثالثة هى البرلمان.وحتى وان تم تجاوز هذه الازمة. لقد قادت الأزمة الراهنة الى حالة من الاحتراب الداخلي، بدأ معه التخطيط لعزل الرئيس، وهو الامر الذى يصعب تحقيقه حتى وإن توافرت أغلبية الثلثين داخل البرلمان فى ظل غياب المحكمة الدستورية؛ او المرور الى احتمالية مباشرة الحكومة بوزرائها الجدد لمهامها دون أداء اليمين امام الرئيس، وهو الاجراء غير القابل للتنفيذ، ويمكن ان يعمق الأزمة اكثر ويقود الدولة نحو المجهول. وسينتهى الامر، ربما الى دفع المشيشى الى التراجع من خلال سحب الوزراء الذين عليهم فيتو، او الانسحاب من المشهد وإعادة التكليف لرئيس الجمهورية. بالنهاية، وإن تم ادعاء تغليب منطق الدولة وإعلاء المصلحة الوطنية لتجاوز الأزمة الراهنة، فذلك لا يعنى انتهاء أزمات تونس السياسية، بل هو مجرد انتهاء فصل ليبدأ بعده فصل آخر من الصراع، مادامت هناك نفس التجاذبات ورغبة كل طرف فى تثبيت مكانته، وإعلاء هيبته بفرض العودة له فى حالات التعديل الوزاري. ومادام هناك نفس الفراغ الدستوري. ومادام هناك نفس النظام الهجين الذى أثبت فشله.